لم تعرف الإنسانية على مر العصور مثل التراث العربي وما حواه من كنوز أدبية نادرة وبديعة
جادت بها أذهان أصحابها رجالاً ونساءً، ولنا في حديث أم زرع خير مثال؛
فهو نص بليغ في لغته، قوي في ألفاظه، قد يبدو لأول وهلة حديث سمر ممتع فحسب،
لكن المتأمل فيه يدرك جيداً ما تضمنه من إرشادات توجيهية وإصلاحية لتحسين العلاقات الزوجية،
فهو يُسلط الضوء على ما تنجذب له المرأة وما تنفر منه من صفات في شريك حياتها
استناداً إلى واقع حياة أحد عشر امرأة، ولهذا فإننا في السطور القادمة سنستعرض سوياً
حديث أم زرع كامل مع الشرح والتفسير وبيان أهم الفوائد المستخلصة منه.
مدخل إلى حديث أم زرع
إن العلاقة بين الزوجين هي اللبنة الأولى والأهم في بناء أي مجتمع،
وكلما انضبط جوهر الحياة الزوجية بالآداب والقيم الكريمة نتج عن ذلك نُبل سلوكيات أطرافها،
مما يؤثر بشكل كبير في المحصلة النهائية للنسيج المجتمعي العام.
وإن تأملنا في حقيقة الحياة الزوجية لوجدناها تتضمن علاقاتٍ متداخلةٍ هائلة،
ولذا تحدث عنها الوحي مشيراً إلى أنها أحد آيات الله التي تستوجب النظر والتأمل والتفكر،
قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].
ولا شك أن ما نملكه من تراث إسلامي وأدبي خصيب من شأنه أن يساعدنا فيما أصبحنا في حاجة ماسة إليه،
وهو أن نضع أيدينا على موطن الداء الذي أصاب معظم بيوت المسلمين،
فقد أصبحنا لا نجد بيتاً سعيداً إلا فيما ندر، وأضحت البيوت تفتقد إلى الدفء والهناء،
وباتت متصدعةً وهشة، يتمنى أحد الزوجين أو كلاهما لو استطاع أن يفارق صاحبه لولا وجود الأبناء.
ومن هذا التراث حديث أم زرع الطويل الذي روته أمنا عائشة رضي الله عنها بتمامه،
حيث قصت على نبينا صلى الله عليه وسلم ما كان من خبر إحدى عشرة امرأة
تجمعن ذات يوم واتفقن على أن يصفن طبيعة علاقتهن بأزواجهن وألا يخفين شيئاً منها،
فاسترعت هذه القصة انتباه الرسول وعلَّق عليها في نهايتها.
ونال الحديث شهرة كبيرة خاصةً وقد رواه كل من البخاري ومسلم في صحيحيهما،
ومن ثم تناوله علماؤنا إلى يومنا هذا بالشرح والتفسير والإيضاح، وحملوا على عاتقهم
مهمة استنباط ما فيه من درر وفوائد فقهية وأدبية ولغوية وشرعية وتهذيبية.
وسُمِّي حديث أم زرع بهذا الاسم نسبةً إلى المرأة الحادية عشر، فهي أكثر من مَدَحَت زوجها
وأثنت عليه مقارنةً بباقي النسوة، وأكثر مَن تكلمت من بينهن، كما أننا لا نعرف من أسماءهن
أو أسماء أزواجهن إلا اسم أم زرع فقط.
تخريج حديث أم زرع
جاء تخريج حديث أم زرع كامل مع الشرح والتفسير في أكثر من كتاب من كُتب أمهات السنة؛
فأخرجه الإمام البخاري في صحيحه ضمن كتاب (النكاح) ورقمه (4893)، وبَوَّب له باباً بعنوان: حسن المعاشرة مع الأهل،
أما الإمام مسلم فأورده في صحيحه ضمن كتاب (فضائل الصحابة) ورقمه (2448)، باب: ذكر حديث أم زرع.
كما أخرجه الإمام النسائي في كتابه “السنن الكبرى” ضمن كتاب (عِشْرَة النساء) ورقمه (9138)، وبَوَّب له بعنوان: باب شكر المرأة لزوجها،
وأخرجه أيضاً كل من الإمام الطبراني في “المعجم الكبير” ورقمه (265)(5/354)، وابن حبان برقم (7104).
وقد يفيدك كذلك: حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مع جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان
التعريف براوية الحديث عائشة رضي الله عنها
هي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبيبته أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق التيمية،
تُلَقَّب بالصِّدِّيقة، وكنيتها أم عبد الله، ولدت في الإسلام قبل تسع سنواتٍ من الهجرة،
وتزوجها النبي وهي ابنة تسع سنوات، وتوفي عنها وعمرها 20 عاماً،
وتوفيت رضي الله عنها في خلافة معاوية سنة 58هـ عن ستٍ وستين سنة.
تميزت بالعلم الغزير، حتى وُصفَت بأنها أفقه نساء الأمة وأعلمهن، ولما لا وقد نشأت
في بيت معلم البشرية صلى الله عليه وسلم منذ نعومة أظفارها، فاستقت العلم والأدب
من منبعه الأصيل، بالإضافة لما تميزت به من ذكاء وقوة حفظ وفصاحة وطلاقة لسان.
وكان الصحابة يستشيرونها في كثير من المسائل، وبلغ عدد ما روته من أحاديث عن الرسول 2210 حديثاً،
وتخرج من مدرستها الكثير من مشاهير التابعين، ومنهم عروة بن الزبير ومسروق بن الأجدع.
متن حديث أم زرع
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: “جلست إحدى عشر امرأة، فتعاهَدْنَ وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً. فقالت الأولى: زوجي لحم جَملٍ غَثّ، على رأس جبل وعر، لا سهلٌ فيرتقى، ولا سمينٌ فينتقل.
وقالت الثانية: زوجي لا أثير خبره، إني أخاف أن لا أذَرَهُ، إن أذكره أذكرْ عُجَره وبُجَره. وقـالت الثالثة: زوجي العَشَنّق، إن أنْطِقْ أُطلَّق، وإن أسكت أُعَلَّق. وقالت الرابعة: زوجي كَلَيْلِ تهامةَ، لا حَرَّ ولا قَرَّ، ولا مخافة ولا سآمة. وقالـت الخامسة: زوجي إن دخل فَهِدَ، وإن خرج أسِدَ، ولا يسأل عما عَهِدَ.
وقالت السادسة: زوجي إن أكل لَف، وإن شَرِبَ اشْتَفَّ، وإن اضطجع التفَّ، ولا يولجُ الكفَّ لِيَعلمَ البَثَّ. وقالـت السابعة: زوجي عَياياءُ (أو غياياءُ) طباقاء، كلُّ داءٍ له داء، شَجَّكِ أو فَلَّكِ، أو جمع كُلاً لَكِ. وقالت الثامنة: زوجي المسُّ مسُّ أرنب، والريح ريح زَرْنَبْ.
وقالـت التاسعة: زوجي رفيعُ العماد، طويل النِّجاد، عظيمُ الرِّماد، قريبُ البيت من الناد. وقالت العاشرة: زوجي مالكٌ، وما مالِك؟ مالكٌ خير من ذلك، له إبلٌ كثيراتُ المبارك، قليلات المسارح، إذا سمعن صوت المِزْهَر أيقنَّ أنهنَّ هَوالك.
وقالـت الحادية عشر: زوجي أبو زَرْع، وما أبو زَرْع؟ أناسَ من حُليِّ أُذُنَيَّ، وملأ من شَحْمٍ عَضُديَّ، وبَجَّحَني فبَجَحْتُ إليَّ نفسي، وجدني في أهل غُنيمةٍ بَشَقٍ، فجعلني في أهل صَهيلٍ وأَطيطٍ، ودائِسٍ ومُنَقٍّ، فعنده أقولُ فلا أُقَبَّحُ، وأرقدُ فأتصبّحُ، وأشربُ فأتقَمَّحُ، أم أبي زرع فما أمُّ أبي زرع؟: عُكومُها رَدَاحٌ، وبيتُها فَسَاح.
ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع؟: مضجعه كمسلِّ شَطْبةٍ، وتُشْبِعُهُ ذِراعُ الجَفرَةِ، بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع؟: طَوعُ أبيها وطَوعُ أمها، وملءُ كسائها، وغَيظُ جارتها، جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع؟: لا تَبثُّ حديثنا تبثيثاً، ولا تَنْقُثُ ميرتَنا تنقيثاً، ولا تَملأ بيتنا تعشيشاً.
قالت خرج أبو زرع والأوطاب تُمْخَضُ، فَلقي امرأةً معها ولدان لها كالفهدين، يلعبان من تحت خَصْرها برمَّانتين، فطلَّقني ونكحها، فنكحْتُ بعده رجلاً سَريَّاً، رَكِبَ شَرياً، وأخذ خَطِيَّاً، وأراح عليَّ نَعَماً ثَرِياً، وأعطاني من كل رائحةٍ زوجاً، وقال: كلي أم زرع! وميري أهلك، فلو جمعتُ كل شيء أعطانيه ما بَلَغ أصغر آنية أبي زرع.
قالت عائشة رضي الله عنها: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كنتُ لكِ كأبي زرعٍ لأم زرعٍ”، وزاد النسائي في روايته: “ولكنِّي لا أطلقك”.
تابع كذلك: أحاديث نبوية وقدسية عن التوبة والاستغفار مع الشرح والتوضيح
شرح حديث أم زرع
يتميز حديث أم زرع بفصاحته وجزالة ألفاظه، وعلى الرغم من طول هذه القصة
إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس بين يدي زوجه عائشة منصتاً لحديثها
على الرغم مما يتحمله من مشاق الدعوة وما يتكبده من أعباء، ولم يكتف بمجرد السماع،
بل أظهر تفاعله مع حكاية زوجته بأن عقّب عليها بعد أن انتهت قائلاً: ” كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع”.
وفيما يلي بيان حديث أم زرع كامل مع الشرح والتفسير والفوائد.
بداية القصة
اجتمعت إحدى عشر امرأة في مجلس لهن، ويبدو أنه كانت تربطهن علاقة قوية،
فقد “تعاهدن وتعاقدن” أي: قطعن على أنفسهن عهداً لازماً، وعقدن العزم على البوح بمكنونات صدورهن بصدق،
“وألا يكتمن” أي لا يُخفين شيئاً فيما يتعلق بأزواجهن مما يميزهم أو يعيبهم من صفات.
خبر المرأة الأولى
ابتدأت المرأة الأولى الكلام قائلةً: “زوجي لحم جبل غثّ” أي: لحم جملٍ هزيل رديء،
وتقصد المبالغة في إظهار عدم رغبتها فيه وأنه لا نفع منه، وعلى الرغم من رداءته
إلا أنه موضوعٌ على قمة “جبل وعر” أي يصعب تسلقه، فلا يستحق أن يُكلف أحد نفسه صعوبة تسلقه،
ثم قالت: “ولا سمين فينتقل” أي: يأخذه الناس إلى بيوتهم كي ينتفعوا به بعد ما عانوه من صعوبة الوصول إليه.
وهي تريد بهذا الوصف إظهار ما تقاسيه مع زوجها من سوء معاملته لها وتكبره عليها
بالرغم من أنه ليس له ميزة تُذكر؛ فهو بخيل وسيء الخلق وسيء المعشر،
وحتى أنها إذا أرادت أن ترضيه تكون كمن يتكبد مشقة صعود جبل عالٍ غير ممهد
ثم يعود صفر اليدين، وهذه الصفة المذمومة ملموسة واقعاً في بعض الأزواج.
خبر المرأة الثانية
أما المرأة الثانية في حديث أم زرع فقالت: “زوجي لا أثير خبره” أي: لا أفشي خبره ولا أظهر صفته،
وعللت ذلك بقولها: “إني أخاف ألا أذره” أي أنها تخشى أن تسترسل في الكلام عنه إن هي بدأت فيه؛
لما يحمله من صفات سيئة كثيرة يطول ذكرها، وقال بعض العلماء أن (لا) زائدة،
والمقصود أنها تخاف إن هي تكلمت وبلغه كلامها عنه أن يذرها ويطلقها.
واكتفت بالإشارة إلى معايبه بقولها: “إن أذكره أذكر عجره وبجره” أي أنها إن كانت ولابد فاعلة
فإنها ستذكر فقط هاتين الصفتين، و”العجر” هو بروز أعصاب الجسم وعروقه الظاهرة من شدة تعقدها،
و”البجر” نفس المعنى ولكن تُختص بها عروق البطن فقط.
والمراد أن زوجها مليء بالمعايب، منها ما هو ظاهر وجلي للعيان يراه أي أحد بسهولة،
ومنها ما هو مستتر وخفي لا تميزه إلا المرأة فقط، وهذا رأي الإمام ابن حجر،
بينما قال الخطاب أثناء تعرضه لشرح حديث أم زرع أن المعنى المقصود هو
أن زوجها كان مستوراً ظاهراً، ولكنها كانت مطلعة على رداءة باطنه.
خبر المرأة الثالثة
أما الثالثة فكانت من أكثرهن بؤساً، تقول: “زوجي العشنَّق” أي فارع الطول بلا نفع أو فائدة،
وقال الأصمعي أنها إنما أرادت ذمَّه بأنه لا يوجد لديه ما يوصف به إلا طوله المُسْتَكرَه،
والذي كانت العرب تعتبره دليلاً على السفه وقلة العقل.
ثم قالت: “إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق” وفي رواية أخرى: “وأنا معه على حد السنان المذلق” أي على حافة الهاوية،
فسرها بعض العلماء بأنها إن هي تكلمت عنه بمساوئه فسيطلقها،
وإن هي سكتت فهي لديه كالمعلقة، أي لا هي أيم ولا ذات زوج.
بينما قال آخرون أنها بهذه الكلمات تصف سوء وضعها لدى زوجها، وأنها لا تجد الأمان في كنفه؛
فهو لا يتحمل كلامها معه إن أرادت أن تبثه بعض همومها، ولن يختلف الوضع كثيراً إن هي سكتت
ولم تُفصح له عما يعتمل في صدرها جرَّاء سوء خلقه معها؛ فهو في كل الأحوال لا يعاشرها بالمعروف.
وقد يتساءل البعض عن سبب استمرار المرأة في العيش مع من هو بمِثل هذا السوء؟
والجواب أن النساء عادةً يتخَوفن من الطلاق ويحسبن له ألف حساب،
فربما يصبرن على سوء المعاملة لمجرد أن يكُنَّ في كنف رجل،
وفيما يبدو أن هذه المرأة في حديث أم زرع إنما تسكت وتصبر لعدم رغبتها في فراقه؛
إما لحبها له أو بسبب حاجتها إليه كي يُطعمها.
والواقع مليء بمثل هذا؛ فكم من فتاة تقبل زواج أول من يطرق بابها -وإن لم تكن ترتضيه-
لمجرد الفرار من بيت أهلها وضيق الحال وقلة ذات اليد، فإذا بها تصطدم بسوء عشرته ودناءة خُلُقه،
فلا تجد بُداً من تحمله لكي لا تعود إلى ما فرَّت منه.
خبر المرأة الرابعة
أما الرابعة فقد خالفت صاحباتها فمدحت زوجها وأثنت عليه ثناءً جميلاً، فقالت:
“زوجي كَلَيْل تُهَامة” أي أنها لم تر منه أي سوء أو أذى، ووصفته بهذا لأن
ليل تهامة مشهور باللطف والصفاء، وأنه معتدل ليس بارداً ولا حاراً ولا يملّه أحد،
وهو ما أوضحته بقولها: “لا حر ولا قر ولا سآمة”.
والمُراد أنها تريد إظهار حسن معاشرته لها ولطفه معها، فهو رفيق بها، لَيِّن الطبع،
ليس فيه شدة، وأيضاً ليس بارداً عديم الإحساس، لا تخشى منه سوءاً حتى وإن أخطأت،
ولا تملّ صحبته ولا الحديث معه ولا هو يمَلُّها كذلك، فهي معه في راحة ومأمن ولذة عيش.
ونريد أن نُشير هنا إلى أن أفضل الرجال هو من تأنس معه زوجته وتجد في صحبته الطمأنينة والأمان،
وليس أفضل مثال على هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان يُجالس زوجاته
ويستمع إلى قصصهن وشكاويهن، ويحل ما يحدث بينهن من مناوشات وإشكالات بهدوء وحكمة ولطف.
فروى البخاري في صحيحيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
“كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فأرْسَلَتْ إحْدَى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ بصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتي النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في بَيْتِهَا يَدَ الخَادِمِ، فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ، فَجَمع النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الذي كانَ في الصَّحْفَةِ، ويقولُ: غَارَتْ أُمُّكُمْ ثُمَّ حَبَسَ الخَادِمَ حتَّى أُتِيَ بصَحْفَةٍ مِن عِندِ الَّتي هو في بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إلى الَّتي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا، وأَمْسَكَ المَكْسُورَةَ في بَيْتِ الَّتي كَسَرَتْ”.
هكذا تُحلّ مثل هذه المشكلات، لا كما يفعل بعض الأزواج من التلويح بالطلاق
في كل خلاف صغيراً كان أو كبيراً، فتظل زوجته معه في قلق وترقب مستمر.
وينبغي أن يعلم كل زوج أن زوجته أسيرة لديه، لذا أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم
بالمرأة في خطبة حجة الوداع قائلاً: “استَوصوا بالنِّساءِ خيرًا فإنَّهنَّ عندَكُم عَوانٍ”، أي: أسيرات.
ولهذا فإن أكثر ما ترغب المرأة في أن تشعر به مع زوجها هو دفء الأمان في كنفه،
وحينها ستعامله بأفضل مما يعاملها به وتعطيه دون حساب، أما إذا ما افتقدت لهذا الشعور
إما لبخل أو لسوء خلق فإنها تتوقف عن العطاء، وتبدأ في الأخذ من مال زوجها دون علمه
خوفاً من أن يغدر بها في أي وقت، وتكذب عليه خشية ألا يقبل منها عذر.
خبر المرأة الخامسة
اختلف شُرَّاح حديث أم زرع فيما إذا كان وصف المرأة الخامسة لزوجها محمول على المدح أم الذم،
فمن حملوه على الذم قالوا أن معنى “إذا دخل فهِد” أنه إذا دخل البيت كان غليظ الطبع معها،
أو أنه يكثر من النوم فلا تكاد تجالسه أو تحادثه، “وإذا خرج أسِد” أي: أي أصبح نشيطاً شجاعاً مقداماً،
“ولا يسأل عما عهد” أي أنه لا يتفقد حالها إذا عاد إلى البيت ولا يعرف إن كانت مريضة أو بها حاجة ونحو ذلك.
لكن الأشهر أن هذا الوصف محمول على المدح؛ فقد شبهته في بيته بالفهد كناية عن كثرة
تغافله عن عيوبها أو تقصيرها، فلا يُعلق على كل شاردة وواردة، ولكنه في الوقت ذاته
إذا خرج إلى الرجال يكون رجلاً مُهاباً بينهم، “ولا يسأل عما عهد” كناية عن كرمه معها،
فبإمكانها أن تأخذ من متاعه وماله كما تريد بدون أن يراجعها أو يحاسبها.
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم الرجال على أن يتحلوا بخلق التغافل في علاقتهن بأزواجهن،
وألا يُقومُونَهن في كل صغيرة وكبيرة طالما لم يقترفن إثماً، فعن سُمرة بن جندب رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ المرأةَ خُلِقتْ مِن ضِلَعٍ، فإنْ أقَمْتَها كسَرْتَها، فدَارِها تعِشْ بها” [صحيح ابن حبان]،
وسُئل أعرابي عن أعقل الناس فقال: “الفطن المتغافل”.
فلقد فطر الله المرأة وفيها عوج وضعف، وهو ما يجذب الرجل إليها ابتداءً،
فإذا ما حاول أن يقيم هذا العوج فإنه سيكسرها، وكسرها طلاقها،
ولذا فإن الرجل مطالب بتقبلها بالحال التي خُلقت عليها، بل وأن ينزل
إلى مستواها في بعض الأحيان، فيلاعبها أو يسابقها مثلما كان يفعل نبينا
المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يُنقص من الرجولة أو القوامة شيئاً،
بل يرفع من رصيد المحبة والتآلف في قلب الزوجة تجاه زوجها.
خبر المرأة السادسة
أما المرأة السادسة في حديث أم زرع فلا خلاف بين العلماء على أنها ذمت زوجها،
حيث قالت: “زوجي إذا أكل لفّ” أي أنه يدور على كل أصناف الطعام فلا يُبقي ولا يذر،
فهو نَهِم أكول، وكانت العرب قديماً تذم الرجل وتعيبه بكثرة أكله وشربه،
و”إذا شرب اشتف” أي يشرب ما في الإناء لآخر قطرة فيه.
“وإذا اضطجع التف” أي أنه إذا أراد أن ينام نام في ركن قصي عنها فلا يقربها،
“لا يولج الكف ليعلم البث” أي أنه لا يهتم لأمرها ولا لسماع شكواها أو ما يؤرقها ويحزنها،
ويحتمل أن يكون المقصود أنه لا يعطيها الفرصة لتعبر له عن حبها له،
فالبث يطلق على الحزن والمرض والشكوى، وقد يطلق على الحب أيضاً.
وهذه المرأة بمقالتها تلك إنما تشكو زوجها أكثر من كونها تذمه؛
فكلمة “إذا أكل لف” يُحتمل أنها تشير إلى مهارتها في إعداد الطعام وأنها تطهو له ما لذ وطاب،
ثم يكون جزاؤها منه أن ينام مبتعداً عنها ولا يهتم لأمرها ولا يحنو عليها ولو بأن يربت على كتفها!
فكل امرأة تحتاج في نهاية يومها الطويل الذي تمضيه ما بين أعباء المنزل ومتاعب الأبناء
أن تسمع كلمة طيبة تهون عليها ما تلاقيه، وتكون دافعاً لها على مواصلة عطائها اللامحدود بكل حب ورضا.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم خير أسوة؛ فقد كان حريصاُ على تفقد أحوال زوجاته والتلطف معهن،
وسماع شكواهن، والتسرية عنهن، حتى أن عائشة رضي الله عنها لمّا حدَّثَت بما كان من أمر الرسول معها
في حادثة الإفك قالت: “بكيت ثلاثة أيام بلياليهن حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي”
من مرض أصابها بعد عودتها من غزوة بني المصطلق حين شاع أمر حادثة الأفك،
فكان النبي لا يزيد على أن يدخل عليها فيقول: “كيف تيكم” أي كيف حال هذه؟ ثم ينصرف.
ولم تكن عائشة سمعت شيئاً بعدُ مما يتداوله الناس عنها، فارتابت من هذه المعاملة الجافة
التي لم تعتد عليها من النبي حال مرضها أو تألمها فإذا به لا يرق لحالها هذه المرة ولا يتلطف معها،
تقول: “وكان يريبني أني لا أجد اللطف الذي كنت أجده منه حين أشتكي”. وهذا هو محل الشاهد.
خبر المرأة السابعة
على الرغم مما مر علينا من صفات سيئة في أزواج معظم نسوة حديث أم زرع سالفات الذكر؛
إلا أن زوج هذه المرأة هو أكثرهم سوءاً؛ فتقول: “زوجي عَياياء” من العِي، أي: العجز عن إتيان النساء،
أو “غَياياء” من الغي وهو الظلمة والضلال، فهو كالظل الكثيف المعتم الذي لا يتخلله ضوء.
أما “طباقاء” فهو: الأحمق الذي تُطبق عليه شؤونه، أو هو مَن لا يُحسن الكلام فينطبق فمه،
كنايةً عن أنه لا يُحسن أن يتفاهم معها بالكلام،
“كل داء له داء” أي أن جميع عيوب الناس ومساوئهم اجتمعت فيه.
إذاً ما هي طريقته في التفاهم؟ الطريقة الوحيدة التي يُحسنها هي الضرب المبرح،
فهو إما “شجَّكِ” أي جرَح وجهها أو رأسها، أو “فلَّكِ” أي: كسَرَ عضو من جسدها أو عظامها أو جرح جلدها وشقَّه،
أو “جمَعَ كلاً لكِ” أي يجمع بين جرح الوجه والرأس وتكسير الأعضاء والجروح.
ويتضح من وصفها أن هذا الرجل بلغ من السوء مبلغاً عظيماً؛ فهو غير قادر على أن يقضي وطرها
ومع ذلك يؤذيها أشد ما يكون الأذى، ويسيء عشرتها أيما إساءة، فيضربها ضرباً شديداً
إن هي أغضبته أو حتى مازحته، وكل هذا يتعارض تعارضاً كبيراً مع هدي الإسلام في معاملة الزوجات،
بل حتى مع شيم الرجال ذوي الفطرة السليمة.
فالله عز وجل ما شرع ضرب الزوجات بقوله {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] إلا في حالات النشوز بهدف التقويم والعلاج،
وجعل قبله مرحلتين لا يجب تجاوزهن، وقيدته السنة بضوابط شرعية إذا خالفها الزوج حقَّ لزوجته أن تقتص منه،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فاضربوهن ضرباً غير مبرح” [صحيح مسلم]،
أي غير مؤذٍ، ضرب مُحب يبتغي الإصلاح لا ضرب من يريد الانتقام.
خبر المرأة الثامنة
امتدحت هذه المرأة زوجها بإيجاز شديد فقالت: “زوجي المس مس أرنب، والريح ريح زرنب”،
والأرنب: حيوان ليِّن الملمس، يتميز بنعومة وبره الشديدة، والزرنب: نبات ذو رائحة طيبة محببة للنفس.
فإما أنها هنا تمتدح لين جسده ونعومته من شدة ما يهتم بنفسه،
أو أن هذا الوصف كنايةً عن حسن معاشرته لها ولين جانبه ورفقه بها،
كما امتدحت طيب رائحة عرقه؛ إما كنايةً عن شدة نظافته وكثرة تطيبه
بالجميل من العطور، أو كنايةً عن حسن حديثه.
وهذا من الأدب الذي تفتقر إليه بعض بيوت المسلمين؛ حيث يُستحب لكلا الزوجين
أن يتجمل لزوجه وأن يهتم بنظافته؛ كي لا يصدر منه ما ينفر الطرف الآخر،
وفي هذا اقتداء بخير الورى صلى الله عليه وسلم.
فعن شريح بن هانئ قال: سألت عائشة رضي الله عنها: “بأي شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك” [رواه مسلم]،
وهذا من شدة حرصه على تطهير فمه والتخلص من أي رائحة كريهة قد تصدر منه.
كما كان صلى الله عليه وسلم يحب الطيب، بل ويأمر أصحابه به،
وفي هذا روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنهما-
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح خده، قال: “فوجدت ليده برداً وريحاً كأنما أخرجها من جؤنة عطار”، من كثرة تطيبه.
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: “كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سُكة يتطيب منها” [صحيح أبي داود]،
والسُكة : هي خليط من العطور، أو وعاء خاص بالطيب.
خبر المرأة التاسعة
مدحت هذه المرأة زوجها بالجود والكرم والسيادة والشرف، فقالت: “زوجي رفيعُ العمادِ”
العماد: هو عمود البيت الذي يدعمه ويقويه، والمراد أن عمود بيته مرتفع
حتى يتمكن من رؤيته الضيف أو الغريب أو مَن له حاجة، وهي بهذا الوصف تكنِّي عن شرفه وكرمه ورفعته.
“طويل النجاد” النجاد هو ما يُحمَل فيه السيف، كنايةً عن طول قامته،
ولكن هذا الرجل طوله محمود بخلاف العَشَنَّق، وطول النجاد إشارة إلى الشجاعة والإقدام وقوة البأس في الحروب،
وقولها: “عظيم الرماد” أي أن نار داره لا تنطفئ من كثرة ما يُقري الأضياف.
ثم دلَّلت على جوده بأن قالت: “قريب البيت من النادْ” والنادِ هو النادي ولكن حُذفت الياء لموافقة السجع،
وهو مجلس القوم ومنتداهم، ويُحتمل أن يكون المقصود أنه لرفعته له رأي مسموع في قومه،
أو أنه اتخذ بيته قريباً من الناس حتى يسهل عليهم لقاؤه إذا ما احتاجوا إليه في مشورة ونحوه.
والكرم من أكثر الصفات التي كان العرب يحرصون على التحلي بها ويمدحون عليها،
فهو يستر كل عيب، أما البخل فلا يُرى لصاحبه حسنة؛ من سوء ما اتصف به،
وقد ذم الله البخل وأهله في كتابه فقال: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء: 37]،
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أبعد ما يكون عن البخل، بل إنه كان أَجْوَد من الريح المرسلة.
قد يهمك أيضًا: أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم في مواضيع مختلفة
خبر المرأة العاشرة
كذلك امتدحت المرأة العاشرة في حديث أم زرع زوجها بصفة الكرم، فقالت: “زوجي مالك” هذا اسمه،
“وما مالك!” تريد تعظيم زوجها وإجلاله من خلال استخدام الاستفهام التعجبي وتكرار اسمه،
ثم قالت: “مالك خير من ذلك” أي أن زوجها أفضل بكثير من كل ما ستصفه به؛
تريد المبالغة في تعظيمه والثناء عليه.
“له إبل كثيرات المَبَارِك” المبارك جمع مِبرَك، وهو مكان بروك الإبل ونزولها،
والمراد بأنها “قليلات المسارح” أي لا تخرج للرعي إلا قليلاً،
كنايةً عن استعداده لإكرام الضيفان في أي وقت يأتونه فيه.
ثم قالت: “إذا سمعن صوت المِزهَر” قيل هو العود، أو آلة تصدر صوتاً كان يستخدمها
إذا أتى ضيف إظهاراً للفرح بقدومه، وقيل هو آلة توقد بها النار للشوي،
“أيقنَّ أنهن هَوالِك” أي إذا سمعت الإبل هذا الصوت عرفن أن ضيفاً قد آتي، وأن إحداهن في طريقها للذبح.
خبر أم زرع
نأتي إلى خبر مَن نُسِب حديث أم زرع إليها، وهي أم زرع بنت أُكيمل بن ساعدة،
قالت: “زوجي أبو زرع، فما أبو زرع!” أي ما الذي تعرفونه عن أبي زرع،
وحيث أنكم لا تعرفونه فسأخبركم عنه، “أناس من حُليٍ أُذنَيَّ” أناس من النوس أي الحركة،
والمعنى أنه ملأ أذنيها بالحلي التي تضطرب وتتحرك مع تحركها،
وأول ما ابتدأت به هو ذكر الحلي؛ لأن النساء شغوفات بالذهب والحلي.
ثم قالت: “وملأَ مِن شحمٍ عضُدَيَّ” أي أنه تزوجها نحيلة فسمِنت عنده من شدة كرمه معها وكثرة ما يطعمها،
“وَبَجَحني فَبَجَحتْ إليَّ نَفسي” أي أنه أكثَرَ من تعظيمها وإكرامها حتى صدّقته وصارت ترى نفسها بعينه،
كل هذا على الرغم من أنه: “وجَدَني في أهلِ غُنَيمةٍ بِشَقٍّ” أي أنه أخذها من بيت فقير،
حيث كان أهلها يرعون الغنم في شق جبل.
ثم قالت: “فجعلَني في أهلِ صَهيلٍ وأَطيطٍ” الصهيل صوت الخيل، والأطيط صوت الإبل،
أي أنه كان غنياً شريفاً، فالإبل والخيل كانت من أنفس الدواب عند العرب،
“ودائِس” هو من يدوس الزروع لإخراج الحب من سنابله، كناية على أن أهله زُرَّاع،
“ومُنَقّ” وهو المَنْخُل، أي ما يستخدم في تنقية الطعام من الشوائب والقشور،
وكل هذا إشارة إلى أنه نقلها من حياة الضيق في بيت أهلها إلى رغدٍ من العيش ورفاهية وترف.
ثم قالت: “فعندَه أقولُ فلا أُقبَّحُ” أي لا يُرد لها قول؛ فمكانتها من مكانتِه وعِزّها من عزِه،
“وأرقدُ فأَتصبَّحُ” أي تنام إلى وقت الضحى، وفيه كناية عن كثرة الخدم حولها يكفونها حاجتها ومئونتها،
“وأشربُ فَأتقنَّحُ” أي تشرب حد الارتواء إلى أن تزهد فيه من شدة شبعها.
وصف أم أبي زرع
لم تكتفِ أم زرع بمدح زوجها، بل ثَنَّت بالثناء على أمه أيضاَ فقالت:
“عُكُومُها رَداحٌ” العكوم هي ما يُجمع فيه المتاع والطعام، ورداح أي كبيرة واسعة،
وفي هذا كناية عن كثرة الخير في بيتها ورغد العيش، “وبيتُها فساحٌ” أي واسع ممتد.
وصف ابن أبي زرع
ثم امتدحت ابن أبي زرع قائلة: “مَضجعُه كمِسَلِّ شَطبةٍ” شبَّهت مكان نومه بجريد النخل المشطوب –أي الذي أُزيل سعفه-،
وفي هذا الوصف تشبيه لابن أبي زرع بالسيف المسلول، أي أنه كان نحيفاً وقوياً في الوقت ذاته؛ كنايةً عن رشاقته وخفته.
ثم قالت: “ويُشبعُه ذراعُ الجفرةِ” أي يكفيه من الطعام الرِجل الأمامية لأنثى الماعز الصغيرة.
وصف بنت أبي زرع
لم تغفَل أم زرع عن مدح ابنة أبي زرع أيضاً فقالت: “طوعُ أبيها، وطوعُ أمِّها” أي أنها ذات أدب،
بارة بأبيها وأمها، فتطيعهما ولا تكسر لهما كلمة، “وملءُ كِسائِها” أي أنها كانت ممتلئة الجسم،
وكان هذا مما تًمدح به المرأة دون الرجل، “وغيظُ جارتِها” أي تثير غيط ضرتها؛ من حسنها وأدبها وطيب أصلها.
وصف جارية أبي زرع
لم تكتفِ أم زرع بالثناء على أهل زوجها، بل أثنت على جاريته أيضاً؛ من شدة حبها له،
فقالت: “لا تَبثُّ حديثَنا تَبثيثًا” أي أنها أمينة لا تُفشي لهم سراً، ولا تنقل لأحد ما يدور في البيت من أحداث أو أحاديث،
“ولا تَنقثُّ مِيرتنا تنقيثًا” أي أنها مُدَبِّرة لا تُهدر الطعام ولا تُبذِّر فيه، ولا تأخذ منه بغير حق،
“ولا تملأُ بيتَنا تعشيشًا” أي أنها تُصلح البيت وتنظفه، ولا تترك القمامة بداخله في أركانه كالأعشاش.
طلاق أم زرع
تكمل أم زرع حديثها قائلة: “خرجَ أبو زرعٍ والأوطابُ تُمخضُ” الأوطاب هي آنية اللبن،
وتمخض أي تُرج ليُستخرج منها الزُبد، وقولها هذا يدل على أنه خرج مبكراً،
فإذا به يلقى امرأة مع ولدين لها “كَالفَهِدينِ” أي رشيقين،
واهتمت بذكر وصفهما للتنبيه إلى أحد الأسباب التي دفعت أبو زرع للزواج منها،
وهو رغبته في أن يكون له أولاد من امرأة منجبة.
بالإضافة لأنها أعجبته، فقد كان الولدان “يلعبان من تحت خصرها برمانتين”
أي يلهوان تحت وسطها ويلعبان بثدييها الصغيرين، والتشبيه بالرمان كناية عن حسنهما.
فما كان منه إلا أن طلق أم زرع وتزوج من هذه المرأة.
ولكن قد يتساءل البعض: ما سبب تطليقه لها؟
وفي هذا يقول الحافظ ابن حجر في شرح حديث أم زرع في كتاب فتح الباري
أنها في رواية أخرى قالت: “فَأَعْجَبَتْهُ فَطَلَّقَنِي”، أي جعلت سبب تطليقه لها هو أنها أعجبته
وأحبها فملأت عليه قلبه فزهد في أم زرع، وهناك تفسير آخر أتى ذكره في لفظ الحديث
من طريق أبي معاوية، وهو: “فَخَطَبَهَا أَبُو زَرْعٍ، فَتَزَوَّجَهَا، فَلَمْ تَزَلْ بِهِ حَتَّى طَلَّقَ أُمَّ زَرْع”،
أي أن المرأة تمكنت من قلبه حتى جعلته يطلق أم زرع.
صفات الزوج الثاني
قالت: “فنَكحتُ بعدَه رجلًا سرِيًّا” أي تزوجت رجلاً ثرياً من أشراف الناس وكبرائهم،
“ركِبَ شرِيًّا” أي فرساً فائقاً سريعاً يمشي قُدُماً في طريقه بلا كلل،
“وأخَذَ خطِّيًّا” أي كان يحمل معه رمحاً أثناء ركوبه جواده؛ زيادة في الهيبة والتفاخر،
“وأراحَ عليَّ نعمًا ثرِيًّا” أي أنه أغدق عليها نعماً كثيرة وخيراً وفيراً، أو أنه وهبها الكثير من الإبل.
ثم تقول: “وأعطاني مِن كلِّ رائحةٍ زوجًا” أي أعطاها من كل ما يروح ويأتي من الإبل والأبقار والأغنام وغيرها اثنين أو صنفين،
“وقال لي: كُلي أم زرع ومِيري أهلَكِ” أي لا تحرمي نفسك شيئاً واهدي أهلك وأوسعي عليهم مما تشائين من الطعام.
ثم بعد كل ما وصفته به من جاه، وكبرياء، وشجاعة، وكرم، وتفَضُّل على أهلها زيادةً في إكرامه لها،
إذا بها تختتم حديثها قائلةً أن أصغر آنية أبي زرع أعظم وأحب إليها من كل ما منحها إياه؛
كناية عن شدة محبتها لأبي زرع، فقد كان أول أزواجها واستوطنت محبته شغاف قلبها،
ويحتمل أن أبي زرع كان حنوناً ورفيقاً بها، فوجدت في كنفه المحبة والحنان والدفء بخلاف الزوج الثاني.
تعليق النبي على حديث أم زرع
بعد أن انتهت عائشة رضي الله عنها من قص حديث أم زرع على النبي، علَّق صلى الله عليه وسلم قائلاً:
“كنتُ لكِ كأبي زَرعٍ لأُمِّ زرعٍ”، وذكر الهيثم بن عدي في روايته زيادة وهي: “في الألفة والوفاء لا في الفرقة والجلاء”،
وجاء في رواية أخرى: ” إلا أنه طلقها وإني لا أطلقك”،
وأورد كل من الطبراني والنسائي في روايتيهما أن عائشة قالت: “يا رسول الله بل أنت خير من أبي زرع”.
ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل مَن وطء الثرى بقدميه،
ولكن وجه التشابه هنا هو في الإكرام وحسن المعاشرة والألفة والمحبة؛
فالتشبيه ليس مُلزِمَاً بأن يتساوى المشبَّه مع المُشبَّه به في كل صفاته وأحواله.
فوائد من حديث أم زرع
بعد أن عرضنا حديث أم زرع كامل مع الشرح والتفسير أعلاه،
يلزمنا هنا أن نذكر أهم ما استنبطه العلماء من فوائد وعبر، وهي:
- حسن مؤانسة الزوج لزوجته ومجالستها ومسامرتها بما لا يشتمل على إثم.
- جواز الحديث عن أحوال الأمم السابقة وأخبارهم ونوادرهم.
- جواز ذكر عيوب الغير بغرض التنفير منها، ولا يدخل هذا في الغيبة ما دام صاحب العيب غير معروفاً بعينه أو باسمه.
- الحب يجبر الإساءة ويسترها، فبالرغم مما فعله أبو زرع لأم زرع من تطليقه لها إلا أنها مدحته أشد ما يكون المدح، وبالغت في الثناء عليه.
- جواز أن تصف المرأة لزوجها حُسن امرأة أخرى ما دامت مجهولة له ولا يمكنه الاستدلال على شخصها.
- جمال المرأة وقوتها في ضعفها، وقد فطرها الله على أن تأنس بالرجل، فإذا لم تجد الأنس معه غلب عليها الحزن والكآبة.
- أهمية الكلمة الطيبة في التخفيف عن المرأة وتطييب خاطرها.
- المرأة تحب من يكرمها ولا يبخل عليها بشيء.
- أهمية تقدير الزوج لكلام زوجته وعدم التسفيه منه أو تحقيره.
- قد تصبر المرأة على فقر زوجها ولا تشتكي، خاصةً مع إحسانه لها، لكنها قَلَّ أن تصبر على سوء خُلُقه معها.
- على الزوج تفقد أحوال زوجته دائماً، وأن يشاركها في أفراحها وأحزانها وأن يستمع لشكواها.
- كثرة متطلبات الزوج فيما يخص الطعام والإسراف فيه من مكدرات الحياة الزوجية، وهو ما يستفاد من خبر المرأة السادسة التي ذمت عادات زوجها فيما يتعلق بالأكل والشراب.
المضامين التربوية في حديث أم زرع
أولاً: المضمون النفسي
تميل النفس البشرية إلى مشاركة الخبرات مع الأحبة، وكشف مكنونات الأسرار لهم،
وهذا جائز شرعاً ما دام لا يتجاوز حدود الأدب الشرعي، ولا يفضح ما ستره الله من خبايا لا يجوز كشفها،
وفي هذا يقول الخبراء أن عدم تبادل أطراف الحديث بين الزوجين،
أو عدم تعبير كل منهما عن مشاعره لشريكه يضر بالعلاقات الزوجية ويعوق تطورها.
يشير حديث أم زرع إلى أحد مشكلات الطلاق المتعلقة بنفسية المرأة المطلقة،
وهي تعلقها بطليقها وحنينها إلى أيامها معه، وعقدها لمقارنات بين طليقها وزوجها الثاني،
خاصةً إذا كان يحسن عشرتها ومعاملتها وكان طلاقها منه بغير جريرة منها.
ويظهر من خبر المرأة الرابعة أنها مدحت زوجها بأنه ذو شخصية معتدلة، لا فرق بين ظاهره وباطنه،
لا هو بالمتجهم، ولا بالضعيف المهزوم، وهذا الاعتدال تحبه المرأة؛ لأنه يمنحها الأمان الأسري.
كما ذكرت أن من عوامل سعادتها مع زوجها أنها لا تجد في صحبته مكاناً للشعور بالملل،
فالملل أحد نواقض السعادة الزوجية، لذلك لابد أن يعمل الزوجان على إحداث تغيير في نمط حياتهم المعتاد من وقت لآخر.
كما يُظهر حديث أم زرع طبيعة بعض الأزواج المضطربين الذين يبطشون بزوجاتهم ويضربونهن ضرباً أليماً مبرحاً،
مما ينتج عنه انتفاء الغاية من الزواج وهي تحقيق السكن والمودة والرحمة،
بل إن ميثاق الزواج يتحول إلى حبل غليظ في رقبة الزوجة لا يُفارقها إلى أن تموت أو يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
ثانياً: المضمون التعليمي
اشتمل حديث أم زرع على قائمة كبيرة من الكلمات العربية الجزلة، وأساليب بلاغية بديعة،
وفنوناً أدبية رفيعة، وهذا مما يفيد في تنمية الذكاء اللغوي، وتهذيب النفوس وترقيقها،
فعلم اللغة من العلوم الهامة التي لا غنى لطالب العلم عنها.
ثالثاً: المضمون الاجتماعي
يبين حديث أم زرع ما للنساء من قدرة فائقة في رصد تفاصيل الرجال ودقائقهم،
وتحديد مواطن ضعفهم وقوتهم، لذا يمكن وصف الزوجة بأنها مرآة زوجها،
فمن المهم أن يتم تغيير أفهام كثير من الناس تجاه المرأة ومنحها التقدير والثقة في إمكاناتها وقدراتها العقلية.
الخاتمة
إن من الصعب حصر كافة الأخلاقيات الحسنة التي ورد ذكرها في حديث أم زرع الطويل
وإيضاح مدى فائدتها في استقرار الحياة الزوجية وإنعاش السعادة الأسرية وتحسين العلاقة بين الزوجين.
ولكن يمكننا تلخيص ما سبق في أن الحديث تضمن الثناء على خلق الكرم، واعتدال طباع الزوج،
وعدم المبالغة في التطلب، وإكرام الرجل لزوجته وأهلها، والتجمل والتزين لها،
وعدم الاعتداء عليها قولاً وفعلاً، والرفق بها، ومؤانستها.
وكل هذه الخصال مما أرساه الشرع الحنيف وحث عليه فيما يخص حسن الخلق مع الزوجة،
وهو ما مارسه النبي صلى الله عليه وسلم عملياً مع زوجاته،
فحري بكل زوجٍ أن يقتدي به وأن يهتدي بهديه؛ حتى يعود للبيوت دفؤها وسعادتها المنشودة.