سًئل النبي يومًا: مَن أحب الناس إليك؟ فقال: عائشة، قالوا: من الرجال؟ فأجاب: أبوها، هكذا بتلقائية لا تردد فيها، ولم لا؟ وقد كانت صفات أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفضائله لا تُضاهى، ومناقبه لا تُجارى، حتى أن الله عز وجل شهد له بالصحبة، وخصه بالصديِّقية، وفضَّله بمرافقة نبيه في هجرته، وحباه بشخصية فريدة؛ فجمع بين الرقة والشجاعة، واللين والحزم، فكان نِعم الصاحب وخير خليفة، فهلم بنا نتلمس من سيرته جميل خصاله.
أبو بكر الصديق
هو عبد الله بن عثمان بن عامر التيمي، المُكنَّى بأبي بكر، الملقّب بالصديق، من أشراف قريش وساداتها، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل صحابته وأحبهم إليه باتفاق الأمة، أول مَن آمن به وصدقه ونصره من المؤمنين، وأول الخلفاء الراشدين، دامت خلافته عامين كاملين وثلاثة أشهر و10 أيام –على الأرجح-، كان فيهما مثال الحاكم العادل المعظِّم لحرمات الله وشرائعه، وتجلت فيهما حكمته ورجاحة عقله وجميل خصاله، فكان شديدًا على أعداء الدين لا يخشى في الله لومة لائم، لينًا رفيقًا برعيته قائمًا على شؤونهم ومصالحهم، إلى أن لقي ربه في جمادى الآخرة من العام الثالث عشر من الهجرة.
صفات أبي بكر الصديق الجسدية
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه حسن الهيئة ذا وجه جميل مُشرق، فروي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: “ثلاثة من قريش أصبح قريش وجوهًا، وأحسنها أخلاقًا، وأثبتها جناناً، إن حدثوك لم يكذبوك، وإن حدثتهم لم يكذبوك: أبو بكر الصديق، وأبو عبيدة بن الجراح، وعثمان بن عفان” [رواه الطبراني في المعجم الكبير بإسناد حسن]، وقال ابن معين أنه كان يُلقَّب بـ “عتيق”؛ لجمال وجهه، وعن رافع بن عمرو قال: “مر بي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزو أو حج فتأملتهم، فلم أر منهم أحسن هيئة من أبي بكر” [رواه الطبراني، ورجاله ثقات].
وصحَّ أنه كان يُخضب لحيته فتبدو حمراء قانية، فعن محمد بن سيرين رحمه الله أنه سأل أنس بن مالك رضي الله عنه: “أكانَ أَبُو بَكْرٍ يَخْضِبُ؟ قالَ فَقالَ: نَعَمْ، بالحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ” [رواه البخاري ومسلم]. ولما سُئلت عائشة رضي الله عنها عن صفات أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهيئته أجابت بأنه كان يتصف بما يلي:
- أبيض: فيه صفرة.
- نحيفًا: فكان إزاره يسترخي أحيًانًا لشدة نحافته.
- خفيف العارضين: أي كان شعر لحيته في خديه خفيفًا.
- أجنأ: أي أحدب قليلًا.
- قليل لحم الوجه: أي كان وجهه نحيفًا.
- غائر العينين: أي كانت عيناه داخلتين في رأسه.
- ناتئ الجبهة: أي ذو جبهة بارزة.
- عاري الأشاجع: أي قليل لحم الأصابع.
صفات أبي بكر الصديق الخُلُقيَّة
جمَع أبو بكر رضي الله عنه بين جمال الخِلْقة وحسن الخلق؛ فكان ذا شخصية حكيمة متزنة متوازنة، فرغم رقة طبعه ولين جانبه الذي جُبِل عليه، فإنه كان رقيقًا بغير ضعف؛ فكان يظهر الشدة والحزم ورباطة الجأش في المواقف التي تستدعي ذلك، فحُقَّ له أن يكون صاحبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفيق دربه، وأن يخلفه من بعده على أمته، ونستعرض فيما يلي جانبًا من صفات أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
المروءة
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه رجلًا خلوقًا ذا مروءة، يترفع عن كل ما يشين من العادات التي كانت مباحة في العرف الجاهلي، فاشتهر عنه أنه لم يشرب خمرًا قط طوال حياته؛ صيانةً لعقله وعرضه ومروءته، حيث رُوي عن عائشة رضي الله عنها بسند جيد أنها قالت: “لقد حرَّم أبو بكر الخمر على نفسه في الجاهلية” [تاريخ الخلفاء للسيوطي].
الرحمة والرأفة
كان الصديق رضي الله عنه رجلًا رحيمًا رقيق القلب، ويتجلى ذلك في موقفه مع مستضعفي مكة الذين أسلموا فأذاقتهم قريش ألوان العذاب، فكان يشتري الإماء والعجائز ويعتقهم ليخلصهم من تسلط سادات قريش عليهم، فأنزل الله فيه قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5-7].
وتمر السنوات ويمكن الله لنبيه ومن اتبعوه، فيحققوا انتصارهم الأول على قريش في غزوة بدر، ويأسروا منهم سبعين ممن نكلوا بهم قبلًا، فلما استشاره النبي صلى الله عليه وسلم في شأنهم غلبته رحمته، فقال أبو بكر: “يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدًا” [رواه أحمد في مسنده].
التضحية والجود والبذل في سبيل الله
كان الصديق أكثر الناس بذلاً وإنفاقًا في سبيل الله مذ أسلم، لا يخشى فقرًا ولا إقلالُا، والشواهد على هذا كثيرة، منها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: “…إنَّ أمَنَّ النَّاس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متَّخذًا خليلًا من أمتي لاتَّخذت أبا بكر، ولكن أخوَّة الإسلام ومودَّته، لا يبقين في المسجد باب إلا سُدَّ، إلا باب أبي بكر” [رواه البخاري ومسلم]
وعن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطَّاب، يقول: “أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدَّق، فوافق ذلك عندي مالًا، فقلت: اليوم أسبق أبا بكرٍ إن سبقته يومًا، قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، وأتى أبو بكرٍ بكلِّ ما عنده، فقال: يا أبا بكرٍ ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسبقه إلى شيءٍ أبدًا” [رواه الترمذي، وقال حسن صحيح].
الأمانة وكتمان السر
ولما تأيمت حفصة عرضها عمر على عثمان بن عفان فأبى، ثم عرضها على أبي بكر فلم يجبه بشيء، الأمر الذي أحزن عمر كثيرًا، يقول عمر رضي الله عنه: “فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت عليَّ حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك؟ قلت: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت إلا أني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سرَّ رسول الله” [رواه البخاري]. فها هي صفة أخرى من جميل صفات أبي بكر الصديق رضي الله عنه تتجلى لنا؛ فالمجالس أمانات، وهو خير من يحفظ الأمانة ويكتم السر.
التودد
وهاك موقف آخر كما في حديث أبي الدرداء في البخاري تتجلى فيه بعض صفات أبي بكر الصديق رضي الله عنه، إذ كان يتحاور ذات يوم مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأغضبه الصديق، فانصرف عمر غاضبًا، فإذا بأبي بكر يلحقه مسرعًا سائلًا إياه أن يغفر له؛ رغبة منه في استجلاب وده، إلا أن عمر أبى أن يسامحه في بادئ الأمر، فانطلق أبو بكر إلى النبي حزينًا وقص عليه ما كان بينهما، ولكن عمر ما لبث أن ندم على ما بدر منه، فذهب إليه عند النبي فرأى في وجهه صلى الله عليه وسلم الغضب، حتى أن أبا بكر أشفق عليه مش شدة غضب النبي، فجثا على ركبتيه وقال: “يا رسول الله! والله أنا كنت أظلم (مرتين)” يدافع عن عمر.
العفو والصفح
ومن حادثة الإفك نستشف واحدة من صفات أبي بكر الصديق رضي الله عنه ألا وهي العفو والصفح الجميل، تلك الحادثة التي آلمت قلبه الرقيق فصبر صبرًا جميًلا، وبينما هو في حزنه على ابنته من جهة وزوجها رفيق دربه وصاحبه من جهة أخرى إذا بطعنة غدرٍ تأتيه من ابن خالة له هو مسطح بن أثاثة، فيبلغه أنه يخوض مع الخائضين في عرض عائشة الطاهرة رضي الله عنها، وكان الصديق يُنفق عليه لفقره وقرابته، فأقسم ألا يُنفق عليه أبدًا.
فلما بُرئت عائشة بوحي السماء، واطمأنت نفس الصديق واستقرت، وأقيم الحد على كل من تكلم بهذا البهتان، نزل الوحي مرة أخرى يخاطب الصديق، تقول عائشة في حديث الإفك الطويل: “…أنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11] الآيَاتِ، فَلَمَّا أنْزَلَ اللَّهُ هذا في بَرَاءَتِي، قَالَ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -وكانَ يُنْفِقُ علَى مِسْطَحِ بنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ منه-: واللَّهِ لا أُنْفِقُ علَى مِسْطَحٍ شيئًا أبَدًا بَعْدَ ما قَالَ لِعَائِشَةَ،
فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤْتُوٓاْ أُوْلِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينَ وَٱلْمُهَٰجِرِينَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوٓاْ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22]، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: بَلَى واللَّهِ إنِّي لَأُحِبُّ أنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَعَ إلى مِسْطَحٍ الذي كانَ يُجْرِي عليه وقال والله لا أنزعها منه أبدًا” [رواه البخاري].
الفطنة والذكاء
أما عن ذكائه وفطنته فحدِّث ولا حرج، يروى عن ثابت عن أنس، قال: “لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركب وأبو بكر رَدِيفه، وكان أبو بكر يعرف الطَّريق لاختلافه إلى الشَّام، فكان يمرُّ بالقوم، فيقولون: مَنْ هذا بين يديك يا أبا بكر، فيقول: هادٍ يهديني” [رواه أحمد وإسناده صحيح]، يريد أن يوهمهم أنه مرشده للطريق، بينما هو يقصد أنه صلى الله عليه وسلم يهديه إلى صراط الله المستقيم، وفي هذا دليل على بلاغته وفطنته.
أيضًا ما رواه أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: “خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم النَّاس، وقال:إنَّ الله خيَّر عبدًا بين الدُّنْيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله. قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه، أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خُيِّر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخَيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا” [رواه البخاري].
رقة القلب
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: “لَمَّا ثَقُلَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَاءَ بلَالٌ يُوذِنُهُ بالصَّلَاةِ، فَقالَ: مُرُوا أبَا بَكْرٍ أنْ يُصَلِّيَ بالنَّاسِ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ إنَّ أبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أسِيفٌ وإنَّه مَتَى ما يَقُمْ مَقَامَكَ لا يُسْمِعُ النَّاسَ” [رواه البخاري]، فوصفت أبا بكر هنا بأنه رجل رقيق القلب، يكثر بكاؤه في الصلاة وإذا قرأ القرآن.
الحزم والشجاعة
ربما يتبادر إلى الذهن أن رحمة الصديق ورقة قلبه جعلته أبعد ما يكون عن الشجاعة، كلا والله؛ فقد كان رضي الله عنه أشجع الناس بعد رسول الله، رابط الجأش، ثابت القلب، أبى إلا صحبة النبي في هجرته ليفديه بنفسه وأهله وماله، وقاتل إلى جانبه في غزواته كلها لم يتخلف عن أيٍ منها، وحتى لما وقعت فاجعة موت رسول الله وكادت عقول أصحابه تطيش، لا يصدقون أن رسول الله مات حقًا، حتى أن عمر قام فقال: “واللَّهِ ما مَاتَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -قَال: واللَّهِ ما كانَ يَقَعُ في نَفْسِي إلَّا ذَاكَ- ولَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ، فَلَيَقْطَعَنَّ أيْدِيَ رِجَالٍ وأَرْجُلَهُمْ”
فكان الصديق أول مَن تمالك نفسه فوقف بينهم قائلُا بحزم: “ألا مَن كانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فإنَّ مُحَمَّدًا قدْ مَاتَ، ومَن كانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فإنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، وقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وقَالَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، قَالَ: فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ” [صحيح البخاري].
ثم لما تولى الخلافة وامتنع الناس عن الزكاة كان موقفه حازمًا حاسمًا لا تهاون فيه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال “لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل النَّاس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل النَّاس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله.
فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه. فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عزَّ وجلَّ قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنَّه الحق” [رواه البخاري ومسلم].
الوقار
قال عمر رضي الله عنه: “كان أبو بكر رضي الله عنه يوم السَّقيفة أحلم منِّي وأَوْقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلَّا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها، حتى سكت…” الحديث. [رواه البخاري ومسلم]
في هذا الحديث يلقي عمر الضوء على عددِ من صفات أبي بكر الصديق وخصاله الحسنة التي تميز بها، ولمسها بنفسه كالحلم والوقار وحسن البيان، وجدير بالذكر أن يوم السقيفة هو اليوم الثاني عشر من ربيع الأول عام 11 هجريًا عقب وفاة النبي، حيث اجتمع الأنصار للتشاور فيمن يخلف رسول الله، وهي سقيفة بني ساعدة التي كانوا يجتمعون فيها للتشاور في الأحداث والقرارات المهمة.
الفصاحة
اشتهر الصديق رضي الله عنه بفصاحته وحُسن بيانه، ومن ذلك خطبته التي ألقاها بعد مبايعته على الخلافة: “أما بعد أيها الناس فإني قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قومٍ إلا عمّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله” [إسناده صحيح].
الوفاء
كان من وفائه رضي الله عنه أن أوفى بوعود النبي صلى الله عليه وسلم وديونه، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: “قال لي رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: لو قد جاء مال البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا ثلاثًا، فلم يقدم مال البحرين حتى قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قَدم على أبي بكر أمر مناديًا فنادى: مَن كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم دين، أو عدة فليأتني، قال جابر: فجئت أبا بكر فأخبرته أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا ثلاثًا، قال: فأعطاني” [رواه البخاري].
ومن وفائه أيضًا إصراره على إنفاذ جيش أسامة بن زيد رضي الله عنه الذي كان رسول الله أمر بتجهيزه لإرهاب الروم والحد من غطرستهم، على الرغم من إشارة كبار الصحابة عليه -ومنهم عمر بن الخطاب- بعدم إنفاذه؛ بسبب حاجته إليهم لمواجهة ما تلا موت النبي من أحداث جسام، ما بين ارتداد بعض القبائل وامتناع آخرين عن الزكاة وعدم استقرار أمر المسلمين، إلا أنه قال: “والله لا أحلُّ عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أنَّ الطير تخطَّفنا، والسباع من حول المدينة، ولو أنَّ الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزنَّ جيش أسامة” [ذكره ابن كثير في البداية والنهاية].
العدل
ولما كان ورِعًا تقيًا كان من صفات أبي بكر الصديق رضي الله عنه العدل بين الرعية، ويشهد له ما رواه سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه قال: “قدم مال في خلافة الصديق، فكان أبو بكر يقسمه على الناس نُقرًا نُقرًا؛ فيصيب كل مائة إنسان كذا وكذا، وكان يسوّي بين الناس في القسم، الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير فيه سواء” [إسناده حسن لغيره].
التواضع
كان رضي الله عنه في تواضعه تجسيدًا لقول الشاعر: (تواضعْ إذا ما نلتَ في النَّاسِ رفعةً… فإنَّ رفيعَ القومِ مَن يتواضعُ)، وكانت هذه الصفة متأصلة في نفسه، فذكر ابن الجوزي أنه بعد مبايعته على الخلافة غدا إلى السوق، فإذا بجارية كان يحلب أغنام لقومها قبل خلافته تقول: “الآن لا يحلب لنا، فقال: بلى لأحلبنَّها لكم، وإنِّي لأرجو ألَّا يغيِّرني ما دخلت فيه”.
وفي موطأ مالك أنه حين بعث الجيوش إلى الشام خرج ماشيًا مع مَن أمَّرَهم على الجيش وهُم رُكُوب يودعهم، فقال أحدهم: “إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال: ما أنت بنازل وما أنا براكب؛ إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله”، فأين نحن من صفات الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه!
الحياء
الحياء خلق عظيم يرفع من قدر صاحبه ويحمده عليه الناس، أما الحياء من الله فهو أجل وأعظم، وقد كان من صفات الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه استحيائه من الله، فخطب في رعيته ذات يومِ فقال: “يا معشر المسلمين، استحيوا مِن الله، فو الذي نفسي بيده إنِّي لأظلُّ حين أذهب الغائط في الفضاء متقنِّعًا بثوبي استحياءً مِن ربِّي عزَّ وجلَّ” [رواه البيهقي في شُعب الإيمان]
كظم الغيظ
وانظر إليه بعدما تولى أمر المسلمين وأصبح حاكمهم، فإذا به يزداد رحمة على رحمة، فإن أغضبه أحدهم أعرض عنه وهو أقدر على أن يبطش به، ولكنها صفات الخليفة أبي بكر الصديق التي قلما اجتمعت في رجل، فعن أبي برزة، قال: (كنت عند أبي بكر رضي الله عنه، فتغيَّظ على رجلٍ، فاشتدَّ عليه، فقلت: تأذن لي يا خليفة رسول الله أضرب عنقه؟ قال: فأذهبت كلمتي غضبه، فقام، فدخل، فأرسل إليَّ، فقال: ما الذي قلت آنفًا؟ قلت: ائذن لي أضرب عنقه. قال: أكنت فاعلًا لو أمرتك؟ قلت: نعم، قال: لا والله، ما كانت لبشر بعد محمد صلى الله عليه وسلم” [صححه الألباني].
الورع
كان الصديق لشدة تقواه يتورع أن يصيب شيئًا من مال المسلمين لا حق له فيه، فقد ذكر ابن حجر في الفتح بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: “لما مرض أبو بكر مرضه الذي مات فيه قال انظروا ما زاد في مالي منذ دخلت الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة بعدي، قالت: فلما مات نظرنا فإذا عبد نوبي كان يحمل صبيانه، وناضح كان يسقي بستانًا له، فبعثنا بهما إلى عمر، فقال: رحمة الله على أبي بكر، لقد أتعب من بعده”.
الحكمة والفراسة
يضاف إلى زمرة صفات أبي بكر الصديق رضي الله عنه صفة الفراسة التي شهد له بها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين قال: “إن أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته: أكرمي مثواه، والمرأة التي رأت موسى عليه السلام فقالت لأبيها: يا أبت استأجره، وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله عنهما” [إسناده صحيح]، كيف لا وقد كان عمر حائلًا دون سيل الفتن الذي ما انجرف على هذه الأمة إلا بموته.
وصف ابن الدغنة لأبي بكر الصديق
تقول عائشة رضي الله عنها: “خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الحَبَشَةِ، حتَّى إذَا بَلَغَ بَرْكَ الغِمَادِ لَقِيَهُ ابنُ الدَّغِنَةِ، وَهو سَيِّدُ القَارَةِ –قبيلة مشهورة-، فَقالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي، فأنَا أُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ في الأرْضِ، فأعْبُدَ رَبِّي، قالَ ابنُ الدَّغِنَةِ: إنَّ مِثْلَكَ لا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ؛ فإنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ، وَأَنَا لكَ جَارٌ، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ ببِلَادِكَ”. [صحيح البخاري].
فتأمل كيف أن صفات أبي بكر الصديق رضي الله عنه تتشابه بل تكاد تتطابق مع ما وُصِف به النبي صلى الله عليه وسلم على لسان أمنا خديجة رضي الله عنها حين جاءها بخبر المَلك الذي نزل عليه في الغار، قالت: “أبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا؛ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ” [صحيح البخاري]، ولعل هذا يفسر التقارب الشديد بينهما؛ وكيف أن طريقهما ومنهجهما في الحياة كان واحدًا، لذا لا عجب أن أبا بكر الصديق بادر إلى تصديق النبي والإيمان بنبوته بلا أي تردد.
وختامًا.. فإن المتأمل في صفات أبي بكر الصديق رضي الله عنه يجده رحيمًا بغير ضعف، حازمًا بغير شِدَّة، فكان الأقرب إلى صفات سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فلا عجب أن ظلا مترافقين ومتوافقين في كل مراحل الدعوة، ولا عجب أن اصطفاه الله ليكون {ثَانِيَ اثْنَيْنِ}، فتلك منزلةً رفيعة لا يتبوأها إلا من كان أهلًا لها.