إن الإقرار بفضل الصحابة ومكانتهم لهو من صميم الإيمان، بل لا يصح الاعتقاد إلا به، لذا عني السلف ببيان فضائلهم، وبخاصة فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ فهو مَن أجْمَع علماؤنا على مر العصور على خيريته، وأن مكانته لا ينازعه فيها أحد، وأنه أفضل الصحابة على الإطلاق، والشواهد على هذا كثيرة ومتواترة، ولو لم يكن له من منقبة إلا شهود الله له بالصحبة وثناءه عليه في كتابه الكريم لكفى به من فضل.
فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه
إن مَن يطَّلِع علي سِيَر أعلامنا يجد منهم مَن كان عظيمًا بخُلُقه، وَمن كان عظيمًا بفكره، ومن كان عظيمًا ببيانه، ومن كان عظيمًا بآثاره، وما يُميز أبا بكر الصديق أنه كان عظيمًا في كل شيء، جامعًا لكل فضيلة، سباقًا لكل خير، ولعظيم فضله ذكر ابن الجوزي: “أن السلف كانوا يُعلمون أولادهم حب أبي بكر وعمر كما يعلمونهم السور من القرآن”، وفيما يلي نسوق الشواهد الدالة على فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه من الكتاب والسنة الصحيحة.
شهادة الله له بالصحبة
يقول الله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]، وأجمع المفسرون على أن مَن وصفه الله فيها بـ {ثَانِيَ اثْنَيْنِ}، ومَن سمَّاه {صَاحِبِهِ} هو أبو بكر الصديق بلا خلاف.
وقد جمعت هذه الآية عدةً فضائل استأثر بها أبو بكر الصديق دونًا عن باقي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي كالتالي:
- لم يشهد الله في القرآن لأحد سواه بالصحبة.
- تفرده بمصاحبة النبي صلى الله عليه وسلم في الغار وفي رحلة الهجرة.
- عاتب الله سبحانه وتعالى بهذه الآية أهل الأرض جميعًا على تخليهم عن نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم باستثناء أبي بكر الصديق.
- شمله الله بالسكينة والطمأنينة؛ فالضمير في قوله: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} عائد على أبي بكر على الأرجح.
- اشتراكه مع النبي صلى الله عليه وسلم في المعية: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} وهي: معية الحفظ والنصر والمعونة والحراسة والتأييد.
- وصفه بـ {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} إشارة إلى شرفه وعلو منزلته، وصح عن رسول الله أنه قال لأبي بكر وهما في الغار: “ما ظنّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما” [صحيح البخاري ومسلم]
- ما كان الله ليستأثره بصحبة نبيه في هجرته لو لم يكن يعلم صدق إيمانه، وأنه أقرب الناس للنبي صلى الله عليه وسلم وأحبهم إليه، أوثقهم.
وصفه في القرآن بالأتقى
قال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى، إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 – 21]، اتفق جمعٌ من المفسرين على أن هذه الآيات على عموم لفظها إنما نزلت في أبي بكر الصديق، تمتدح بذله وإنفاقه في سبيل الله؛ وبخاصة شراءه ضعفاء المسلمين وإعتاقهم تخليصًا لهم من تسلط زبانية قريش عليهم بالعذاب في أثناء فترة الدعوة المكية.
فعن عروة قال: “أعتق أبو بكر سبعة ممن كان يعذب في الله. منهم: بلال، وعامر بن فهيرة.” [رواه الطرباني ورجاله ثقات]، وقال الإمام الشوكاني رحمه الله: ”أخرج ابن أبي حاتم عن عروة أن أبا بكر الصديق أعتق سبعة كلهم يعذب في الله.: بلال وعامر بن فهيرة، والنهدية وابنتها، وزنيرة، وأم عيسى، وأمة بني المؤمل، وفيه نزلت {وسيجنبها الأتقى} إلى آخر السورة”، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: “أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا، يعني بلالا”.
صاحب النبي في الهجرة
لم تكن آية سورة التوبة الشاهد الوحيد على تفرد أبي بكر رضي الله عنه بمرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته، بل أورد البخاري في صحيحه حديثًا يظهر مدى حرص أبي بكر الصديق على تأمين النبي صلى الله عليه وسلم وحمايته في طريق الهجرة، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: “أَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى المَدِينَةِ وهو مُرْدِفٌ أبا بَكْرٍ، وأَبُو بَكْرٍ شيخٌ يُعْرَفُ، ونَبِيُّ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شابٌّ لا يُعْرَفُ،
قالَ: فَيَلْقَى الرَّجُلُ أبا بَكْرٍ فيَقولُ: يا أبا بَكْرٍ، مَن هذا الرَّجُلُ الذي بيْنَ يَدَيْكَ؟ فيَقولُ: هذا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ، قالَ: فَيَحْسِبُ الحاسِبُ أنَّه إنَّما يَعْنِي الطَّرِيقَ، وإنَّما يَعْنِي سَبِيلَ الخَيْرِ”، وفي سنن الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: “أنت صاحبي على الحوض وصاحبي في الغار.” [حديث حسن صحيح غريب]
ولتدرك عِظَم فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، تأمل صنيعه مع النبي صلى الله عليه وسلم وتأدبه بين يديه لمَّا خرجا من الغار باتجاه المدينة، فعن البراء بن عازب أنه سأل أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقال: “حَدِّثْنِي كيفَ صَنَعْتُما حِينَ سَرَيْتَ مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: نَعَمْ؛ أَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا ومِنَ الغَدِ، حتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ وخَلَا الطَّرِيقُ لا يَمُرُّ فيه أَحَدٌ، فَرُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ لَهَا ظِلٌّ، لَمْ تَأْتِ عليه الشَّمْسُ، فَنَزَلْنَا عِنْدَهُ، وسَوَّيْتُ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَكَانًا بيَدِي يَنَامُ عليه، وبَسَطْتُ فيه فَرْوَةً، وقُلتُ: نَمْ يا رَسولَ اللَّهِ وأَنَا أَنْفُضُ لكَ ما حَوْلَكَ.
فَنَامَ وخَرَجْتُ أَنْفُضُ ما حَوْلَهُ، فَإِذَا أَنَا برَاعٍ مُقْبِلٍ بغَنَمِهِ إلى الصَّخْرَةِ، يُرِيدُ منها مِثْلَ الذي أَرَدْنَا، فَقُلتُ له: لِمَن أَنْتَ يا غُلَامُ؟ فَقالَ: لِرَجُلٍ مِن أَهْلِ المَدِينَةِ -أَوْ مَكَّةَ- قُلتُ: أَفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ؟ قالَ: نَعَمْ، قُلتُ: أَفَتَحْلُبُ؟ قالَ: نَعَمْ، فأخَذَ شَاةً، فَقُلتُ: انْفُضِ الضَّرْعَ مِنَ التُّرَابِ والشَّعَرِ والقَذَى، فَحَلَبَ في قَعْبٍ كُثْبَةً مِن لَبَنٍ، ومَعِي إدَاوَةٌ حَمَلْتُهَا للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَرْتَوِي منها، يَشْرَبُ ويَتَوَضَّأُ.
فأتَيْتُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ، فَوَافَقْتُهُ حِينَ اسْتَيْقَظَ، فَصَبَبْتُ مِنَ المَاءِ علَى اللَّبَنِ حتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَقُلتُ: اشْرَبْ يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: فَشَرِبَ حتَّى رَضِيتُ، ثُمَّ قالَ: أَلَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ؟ قُلتُ: بَلَى، قالَ: فَارْتَحَلْنَا بَعْدَما مَالَتِ الشَّمْسُ، واتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بنُ مَالِكٍ، فَقُلتُ: أُتِينَا يا رَسولَ اللَّهِ، فَقالَ: لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ معنَا”.[صحيح البخاري].
أحب الرجال لرسول الله
إن رجلًا هو أحب الناس للنبي صلى الله عليه وسلم لحقيقٌ بأن نتقرب إلى الله تعالى بمحبته، وأن نشهد له بفضله وكرامته، وقد صح أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان أحب الناس للنبي صلى الله عليه وسلم، فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه: “أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَعَثَني علَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فأتَيْتُهُ فَقُلتُ: أيُّ النَّاسِ أحَبُّ إلَيْكَ؟ قَالَ: عَائِشَةُ، فَقُلتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟ فَقَالَ: أبُوهَا، قُلتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، فَعَدَّ رِجَالًا” [صحيح البخاري].
وعن محمد بن الحنفية -ابن علي بن أبي طالب من زوجته خولة بنت جعفر الحنفية- قال: “قلت لأبي: أيّ الناس خيرٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول عثمان فقلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلاّ رجلٌ من المسلمين”. [صحيح البخاري].
أفضل الصحابة
ومن فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفون له فضله، ويقدرون له قدره، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “كُنَّا نُخَيِّرُ بيْنَ النَّاسِ في زَمَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فَنُخَيِّرُ أبَا بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ، ثُمَّ عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عنْهمْ” [رواه البخاري]. وفي رواية أخرى قال: “كُنَّا في زَمَنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا نَعْدِلُ بأَبِي بَكْرٍ أحَدًا، ثُمَّ عُمَرَ، ثُمَّ عُثْمانَ، ثُمَّ نَتْرُكُ أصْحابَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لا نُفاضِلُ بيْنَهُمْ” [رواه البخاري].
شهود النبي له بالإيمان
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بيْنَما رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً له، قدْ حَمَلَ عليها، التَفَتَتْ إلَيْهِ البَقَرَةُ فقالَتْ: إنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهذا، ولَكِنِّي إنَّما خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ فقالَ النَّاسُ: سُبْحانَ اللهِ تَعَجُّبًا وفَزَعًا، أبَقَرَةٌ تَكَلَّمُ؟ فقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: فإنِّي أُومِنُ به وأَبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ.
قالَ أبو هُرَيْرَةَ: قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: بَيْنا راعٍ في غَنَمِهِ، عَدا عليه الذِّئْبُ فأخَذَ مِنْها شاةً، فَطَلَبَهُ الرَّاعِي حتَّى اسْتَنْقَذَها منه، فالْتَفَتَ إلَيْهِ الذِّئْبُ فقالَ له: مَن لها يَومَ السَّبُعِ، يَومَ ليسَ لها راعٍ غيرِي؟ فقالَ النَّاسُ: سُبْحانَ اللهِ فقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: فإنِّي أُومِنُ بذلكَ، أنا وأَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ”. [صحيح مسلم]،
وفي الحديث منقبة عظيمة لأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما؛ إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهما دون غيرهما وشهد لهما بالإيمان والتصديق بهذه القصة رغم أنهما لم يكونا حاضرين، وإنما كان ذلك لثقته التامة في صدق إيمانهما، وأنهما يصدقانه في كل ما جاء به من أخبار.
سبقه للإسلام
من الأصول المقررة أنه ليست العبرة بمن سبق إنما العبرة بمن صدق، فما بالك بمن جمع بين السبق والصدق في آن واحد؟ هكذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ففي البُخاريِّ مِن حَديثِ عَمَّار بن ياسر رضي الله عنه قال: “رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وما معه إلَّا خَمْسةُ أعْبُدٍ، وامْرَأَتانِ، وأبُو بَكرٍ” [صحيح البخاري]، فهنا يذكر عمار أنه لما اعتنق الإسلام ما كان أحد آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من الرجال إلا أبو بكر الصديق.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: “كَانَتْ بيْنَ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ مُحَاوَرَةٌ، فأغْضَبَ أبو بَكْرٍ عُمَرَ فَانْصَرَفَ عنْه عُمَرُ مُغْضَبًا، فَاتَّبَعَهُ أبو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أنْ يَسْتَغْفِرَ له، فَلَمْ يَفْعَلْ حتَّى أغْلَقَ بَابَهُ في وجْهِهِ، فأقْبَلَ أبو بَكْرٍ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ أبو الدَّرْدَاءِ ونَحْنُ عِنْدَهُ: فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أمَّا صَاحِبُكُمْ هذا فقَدْ غَامَرَ، قالَ: ونَدِمَ عُمَرُ علَى ما كانَ منه، فأقْبَلَ حتَّى سَلَّمَ وجَلَسَ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقَصَّ علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الخَبَرَ.
قالَ أبو الدَّرْدَاءِ: وغَضِبَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وجَعَلَ أبو بَكْرٍ يقولُ: واللَّهِ يا رَسولَ اللَّهِ لَأَنَا كُنْتُ أظْلَمَ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هلْ أنتُمْ تَارِكُونَ لي صَاحِبِي، هلْ أنتُمْ تَارِكُونَ لي صَاحِبِي، إنِّي قُلتُ: يا أيُّها النَّاسُ، إنِّي رَسولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا، فَقُلتُمْ: كَذَبْتَ، وقالَ أبو بَكْرٍ: صَدَقْتَ قالَ أبو عبدِ اللَّهِ –هو البخاري-: غَامَرَ: سَبَقَ بالخَيْرِ” [صحيح البخاري]، وفي هذا الحديث إثبات لفضيلة السبق بالإيمان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأنه ما شكَّ قط في صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سبقه إلى أعمال الخير
لم تقتصر فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه على سبقه إلى الإسلام فحسب؛ بل إنه كان سباقًا لكل عمل صالح، وتجمعت فيه خصال الخير، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَن أصْبَحَ مِنْكُمُ اليومَ صائِمًا؟ قالَ أبو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: أنا، قالَ: فمَن تَبِعَ مِنْكُمُ اليومَ جِنازَةً؟ قالَ أبو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: أنا، قالَ: فمَن أطْعَمَ مِنْكُمُ اليومَ مِسْكِينًا؟ قالَ أبو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: أنا، قالَ: فمَن عادَ مِنْكُمُ اليومَ مَرِيضًا؟ قالَ أبو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: أنا، فقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: ما اجْتَمَعْنَ في امْرِئٍ، إلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ.” [صحيح مسلم].
وها هو ذا عمر رضي الله عنه يقص علينا كيف أنه سعى يومًا لحيازة السبق والتفوق على أبي بكر الصديق فما تمكن من بلوغ مرامه، فعن عمرَ بنَ الخطَّابِ، قال: أمرَنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يومًا أن نتصدَّقَ، فوافقَ ذلِكَ مالًا عندي، فقلتُ: اليومَ أسبِقُ أبا بَكْرٍ إن سبقتُهُ يومًا، فَجِئْتُ بنصفِ مالي، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ: ما أبقيتَ لأَهْلِكَ؟، قلتُ: مثلَهُ، قالَ: وأتى أبو بَكْرٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ بِكُلِّ ما عندَهُ، فقالَ لَهُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ: ما أبقَيتَ لأَهْلِكَ؟ قالَ: أبقَيتُ لَهُمُ اللَّهَ ورسولَهُ، قلتُ: لا أسابقُكَ إلى شيءٍ أبدًا.”حديث حسن صحيح”.
تبشير النبي له بالجنة
معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمّى عشرًا من أصحابه مبشرًا إياهم بالجنة في مواقف متفرقة، يأتي على رأسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فعن سعيد بن المسيب قال: “أخْبَرَنِي أبُو مُوسَى الأشْعَري رَضِيَ اللهُ عنه أنَّهُ تَوَضَّأَ في بَيْتِهِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقُلتُ: لَأَلْزَمَنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولَأَكُونَنَّ معهُ يَومِي هذا، قَالَ: فَجَاءَ المَسْجِدَ فَسَأَلَ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالوا: خَرَجَ ووَجَّهَ هَاهُنَا، فَخَرَجْتُ علَى إثْرِهِ أسْأَلُ عنْه حتَّى دَخَلَ بئْرَ أرِيسٍ.
فَجَلَسْتُ عِنْدَ البَابِ -وبَابُهَا مِن جَرِيدٍ- حتَّى قَضَى رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حَاجَتَهُ فَتَوَضَّأَ، فَقُمْتُ إلَيْهِ، فَإِذَا هو جَالِسٌ علَى بئْرِ أرِيسٍ وتَوَسَّطَ قُفَّهَا، وكَشَفَ عن سَاقَيْهِ ودَلَّاهُما في البِئْرِ، فَسَلَّمْتُ عليه، ثُمَّ انْصَرَفْتُ فَجَلَسْتُ عِنْدَ البَابِ، فَقُلتُ: لَأَكُونَنَّ بَوَّابَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اليَومَ.
فَجَاءَ أبو بَكْرٍ فَدَفَعَ البَابَ، فَقُلتُ: مَن هذا؟ فَقَالَ: أبو بَكْرٍ، فَقُلتُ: علَى رِسْلِكَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، هذا أبو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ؟ فَقَالَ: ائْذَنْ له وبَشِّرْهُ بالجَنَّةِ، فأقْبَلْتُ حتَّى قُلتُ لأبِي بَكْرٍ: ادْخُلْ، ورَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُبَشِّرُكَ بالجَنَّةِ، فَدَخَلَ أبو بَكْرٍ فَجَلَسَ عن يَمِينِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ معهُ في القُفِّ، ودَلَّى رِجْلَيْهِ في البِئْرِ كما صَنَعَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكَشَفَ عن سَاقَيْهِ…” [رواه البخاري ومسلم]، ومن فضائل أبي بكر الصديق التي يقرها هذا الحديث أنه كان يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء حتى جلسته.
يدخل الجنة من أبوابها كلها
ومن أجلِّ فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لم يُبشَّر بالجنة فحسب، بل بشَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ممن يدخل من أبواب الجنة الثمانية؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: “مَن أنْفَقَ زَوْجَيْنِ في سَبيلِ اللَّهِ، نُودِيَ مِن أبْوَابِ الجَنَّةِ: يا عَبْدَ اللَّهِ هذا خَيْرٌ.
فمَن كانَ مِن أهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِن بَابِ الصَّلَاةِ، ومَن كانَ مِن أهْلِ الجِهَادِ دُعِيَ مِن بَابِ الجِهَادِ، ومَن كانَ مِن أهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِن بَابِ الرَّيَّانِ، ومَن كانَ مِن أهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِن بَابِ الصَّدَقَةِ، فَقالَ أبو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: بأَبِي أنْتَ وأُمِّي يا رَسولَ اللَّهِ ما علَى مَن دُعِيَ مِن تِلكَ الأبْوَابِ مِن ضَرُورَةٍ، فَهلْ يُدْعَى أحَدٌ مِن تِلكَ الأبْوَابِ كُلِّهَا، قالَ: نَعَمْ وأَرْجُو أنْ تَكُونَ منهمْ. [رواه البخاري ومسلم]، ويقول العلماء أن رجاء الأنبياء يفيد التحقق يقينًا.
نصرته للنبي صلى الله عليه وسلم
ولعل من أبرز فضائل أبي بكر الصديق أنه نصر النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه وماله، وكان يحول بينه وبين أذى المشركين في مكة، وبعد الهجرة أيضًا، فعن عروة بن الزبير قال: “سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بنَ عَمْرٍو بِن العَاص عن أشَدِّ ما صَنَعَ المُشْرِكُونَ برَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قَالَ: رَأَيْتُ عُقْبَةَ بنَ أبِي مُعَيْطٍ جَاءَ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو يُصَلِّي، فَوَضَعَ رِدَاءَهُ في عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ به خَنْقًا شَدِيدًا، فَجَاءَ أبو بَكْرٍ حتَّى دَفَعَهُ عنْه، فَقَالَ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28]”. [رواه البخاري].
وروى البزار أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خطب في الناس يومًا فقال: “أيها النَّاس، أخبروني بأشجع النَّاس، قالوا: لو قلنا أنت يا أمير المؤمنين، فقال: أما إني ما بارزت أحدًا إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع النَّاس؟ قالوا: لا نعلم، فمن؟ قال: أبو بكر الصديق، إنا لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشًا فقلنا: من يكون مع النَّبي صلى الله عليه وسلم لا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهرًا بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يهوي إليه أحد إلا هوى إليه”.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: “أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَلَسَ علَى المِنْبَرِ فقالَ: إنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بيْنَ أنْ يُؤْتِيَهُ مِن زَهْرَةِ الدُّنْيا ما شاءَ، وبيْنَ ما عِنْدَهُ، فاخْتارَ ما عِنْدَهُ. فَبَكَى أبو بَكْرٍ وقالَ: فَدَيْناكَ بآبائِنا وأُمَّهاتِنا، فَعَجِبْنا له، وقالَ النَّاسُ: انْظُرُوا إلى هذا الشَّيْخِ؛ يُخْبِرُ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بيْنَ أنْ يُؤْتِيَهُ مِن زَهْرَةِ الدُّنْيا، وبيْنَ ما عِنْدَهُ، وهو يقولُ: فَدَيْناكَ بآبائِنا وأُمَّهاتِنا!
فَكانَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو المُخَيَّرَ، وكانَ أبو بَكْرٍ هو أعْلَمَنا به. وقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ مِن أمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ في صُحْبَتِهِ ومالِهِ أبا بَكْرٍ، ولو كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِن أُمَّتي لاتَّخَذْتُ أبا بَكْرٍ، إلَّا خُلَّةَ الإسْلامِ، لا يَبْقَيَنَّ في المَسْجِدِ خَوْخَةٌ إلَّا خَوْخَةُ أبِي بَكْرٍ”. [صحيح البخاري]، وفيه أيضًا من فضائل أبي بكر الصديق أنه كان أعلم الصحابة وأفقههم.
الصِّدِّيقية
إن منزلة الصديقية هي أعلى مرتبة بعد مرتبة النبوة، وتعني الانقياد الكامل والاستسلام ظاهرًا وباطنًا للنبي صلى الله عليه وسلم مع الإخلاص المطلق لله تعالى، ومن فضائل أبي بكر الصديق أنه الصحابي الوحيد الذي بلغه الله هذه المنزلة، فلُقِّب بالصديق؛ وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالصديقية.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “لما أُسرِيَ بالنبيِّ إلى المسجدِ الأقْصى، أصبح يتحدَّثُ الناسُ بذلك، فارتدَّ ناسٌ ممن كانوا آمنوا به وصدَّقوه، وسَعَوْا بذلك إلى أبي بكرٍ، فقالوا: هل لك إلى صاحبِك يزعم أنه أُسرِيَ به الليلةَ إلى بيتِ المقدسِ؟ قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك لقد صدَقَ، قالوا: أو تُصَدِّقُه أنه ذهب الليلةَ إلى بيتِ المقدسِ وجاء قبل أن يُصبِحَ؟ قال: نعم إني لَأُصَدِّقُه فيما هو أبعدُ من ذلك، أُصَدِّقُه بخبرِ السماءِ في غُدُوِّه أو رَوْحِه، فلذلك سُمِّي أبو بكٍر الصِّديقَ” [السلسلة الصحيحة للألباني].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ صعِدَ أُحدًا وأبو بَكْرٍ وعمرُ وعثمانُ فرجفَ بِهِم فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ : اثبت أُحُدُ فإنَّما عليكَ نبيٌّ وصدِّيقٌ وشَهيدانِ.” [صحيح الترمذي]. وذكر الطبري في تفسير قول الله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33]، أن عليًا رضي الله عنه قال: “قوله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ}، قال: محمد صلى الله عليه وسلم، {وصدق به}: قال: أبو بكر رضي الله عنه.
سيد كُهول أهل الجنة
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: “كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع أبو بكر وعمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين” [رواه الترمذي وقال حديث صحيح].
الإشارة إلى أحقيته بالخلافة
أجمعت الأمة على أن أولى الناس بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبا بكر الصديق؛ لفضله ومكانته من النبي صلى الله عليه وسلم، وفي السنة شواهد كثيرة على أحقيته، منها ما رواه جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: “أَتَتِ امْرَأَةٌ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأمَرَهَا أنْ تَرْجِعَ إلَيْهِ، قَالَتْ: أرَأَيْتَ إنْ جِئْتُ ولَمْ أجِدْكَ؟ كَأنَّهَا تَقُولُ: المَوْتَ، قَالَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتي أبَا بَكْرٍ.” [صحيح البخاري].
ومن الإشارات أيضًا أنه أمر بأن ينوب أبو بكر عنه فيصلي بالناس وقت مرضه قبيل وفاته، وكرر الأمر ثلاث مرات، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “لَمَّا ثَقُلَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَاءَ بلَالٌ يُوذِنُهُ بالصَّلَاةِ، فَقالَ: مُرُوا أبَا بَكْرٍ أنْ يُصَلِّيَ بالنَّاسِ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ إنَّ أبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أسِيفٌ وإنَّه مَتَى ما يَقُمْ مَقَامَكَ لا يُسْمِعُ النَّاسَ، فلوْ أمَرْتَ عُمَرَ، فَقالَ: مُرُوا أبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بالنَّاسِ فَقُلتُ لِحَفْصَةَ: قُولِي له: إنَّ أبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أسِيفٌ، وإنَّه مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لا يُسْمِعُ النَّاسَ، فلوْ أمَرْتَ عُمَرَ، قالَ: إنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أبَا بَكْرٍ أنْ يُصَلِّيَ بالنَّاسِ.” [رواه البخاري].
وعن ابن أبي مليكلة قال: قال: “سمعت عائشة وسُئِلَت: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر. فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر، ثم قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح ثم انتهت إلى هذا.” [رواه مسلم]. وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوساً فقال: “إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدي، وأشار إلى أبي بكر وعمر، وتمسكوا بعهد عمار، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه.” [صححه الألباني].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بيْنا أنا نائِمٌ رَأَيْتُنِي علَى قَلِيبٍ عليها دَلْوٌ، فَنَزَعْتُ مِنْها ما شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أخَذَها ابنُ أبِي قُحافَةَ فَنَزَعَ بها ذَنُوبًا أوْ ذَنُوبَيْنِ، وفي نَزْعِهِ ضَعْفٌ، واللَّهُ يَغْفِرُ له ضَعْفَهُ، ثُمَّ اسْتَحالَتْ غَرْبًا، فأخَذَها ابنُ الخَطَّابِ فَلَمْ أرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ نَزْعَ عُمَرَ، حتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بعَطَنٍ.” [رواه البخاري]، ومعنى (في نزعه ضعف): كناية عن قصر مدة خلافته.
وأورد البخاري ومسلم في صحيحيهما حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: “ادعي لي أبا بكر، وأخاك حتى أكتب كتاباً؛ فإني أخاف أن يتمنى متمن، ويقول قائل: أنا أولى. ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر.”
إئتمان الرسول له على أسراره
ومن فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتمنه على أسراره، ودل على هذا أكثر من أثر صحيح، ففي حديث الهجرة الطويل الذي روته عائشة رضي الله عنها قالت: “لَقَلَّ يَوْمٌ كانَ يَأْتي علَى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إلَّا يَأْتي فيه بَيْتَ أبِي بَكْرٍ أحَدَ طَرَفَيِ النَّهَارِ، فَلَمَّا أُذِنَ له في الخُرُوجِ إلى المَدِينَةِ، لَمْ يَرُعْنَا إلَّا وقدْ أتَانَا ظُهْرًا، فَخُبِّرَ به أبو بَكْرٍ، فَقالَ: ما جَاءَنَا النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في هذِه السَّاعَةِ إلَّا لأمْرٍ حَدَثَ.
فَلَمَّا دَخَلَ عليه قالَ لأبِي بَكْرٍ: أخْرِجْ مَن عِنْدَكَ، قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّما هُما ابْنَتَايَ -يَعْنِي عَائِشَةَ وأَسْمَاءَ- قالَ: أشَعَرْتَ أنَّه قدْ أُذِنَ لي في الخُرُوجِ؟ قالَ: الصُّحْبَةَ يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: الصُّحْبَةَ، قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ عِندِي نَاقَتَيْنِ أعْدَدْتُهُما لِلْخُرُوجِ، فَخُذْ إحْدَاهُمَا، قالَ: قدْ أخَذْتُهَا بالثَّمَنِ.” [رواه البخاري]
في هذا الحديث أكثر من دلالة على فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ففيه أنه كان قريبًا للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان كثيرًا ما يأتيه في بيته، وفيه تطلع أبي بكر لصحبة النبي صلى الله عليه وسلم ومرافقته في الهجرة، فلما علم الله صدقه بلغه هذه المنزلة، وفيه أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم أسرَّ لأبي بكر بأمر الهجرة ولم يطلع عليه أحدًا سوى أهل بيته.
ويحكي عمر بن الخطاب رضي الله عنه واقعة أخرى فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أسَرَّ إلى أبي بكر حديثًا فلم يفشه، يقول عبد الله بن عمر: “حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بنْتُ عُمَرَ مِن خُنَيْسِ بنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ -وكانَ مِن أصْحَابِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ شَهِدَ بَدْرًا، تُوُفِّيَ بالمَدِينَةِ- قالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ، فَعَرَضْتُ عليه حَفْصَةَ، فَقُلتُ: إنْ شِئْتَ أنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بنْتَ عُمَرَ، قالَ: سَأَنْظُرُ في أمْرِي، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، فَقالَ: قدْ بَدَا لي أنْ لا أتَزَوَّجَ يَومِي هذا.
قالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أبَا بَكْرٍ، فَقُلتُ: إنْ شِئْتَ أنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بنْتَ عُمَرَ، فَصَمَتَ أبو بَكْرٍ فَلَمْ يَرْجِعْ إلَيَّ شيئًا، فَكُنْتُ عليه أوْجَدَ مِنِّي علَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ خَطَبَهَا رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأنْكَحْتُهَا إيَّاهُ، فَلَقِيَنِي أبو بَكْرٍ فَقالَ: لَعَلَّكَ وجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أرْجِعْ إلَيْكَ؟ قُلتُ: نَعَمْ، قالَ: فإنَّه لَمْ يَمْنَعْنِي أنْ أرْجِعَ إلَيْكَ فِيما عَرَضْتَ، إلَّا أنِّي قدْ عَلِمْتُ أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ أكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولو تَرَكَهَا لَقَبِلْتُهَا.” [صحيح البخاري].
عتيق الله من النار
ومن فضائل أبي بكر الصديق أن النبي صلى الله عليه وسلم لقَّبَه بـ (عتيق)، فعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: “أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: “هذا عتيق الله من النار”. فمن يومئذ سمي: عتيقًا، وكان قبل ذلك اسمه: عبد الله بن عثمان.” [رجاله ثقات].
وعن أبي حفص عمرو بن علي أنه كان يقول: كان أبو بكر معروق الوجه، وإنما سمي عتيقا لعتاقة وجهه، وكان اسمه: عبد الله بن عثمان، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه عتيقا من النار.” [رواه الطبراني بإسنادٍ حسن].
وختامًا نقول أن الإقرار بما ثبت بنص الكتاب والسنة من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه أمر واجب شرعًا على كل مسلم، وإن كان هذا مطلوبًا في حق كل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو آكد في حق الصديق الذي كان الصاحب الأمين، والخليفة المؤتمن، واعلم أنه إنما كان سبقه بما وقر في قلبه من حب صادق لله ورسوله، فاستحق ثناء الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم.