معلوم أن الموت سنة الله الجارية في خلقه إلى يوم الدين، لكن هناك مَن يكون موتهم مؤثرًا كما كانت حياتهم، وهكذا كانت وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ فقد كان إيمانه عظيمًا، وتغلغل التوحيد في قلبه ونفسه، فكانت حياته نموذجًا حيًا ملموسًا لتطبيق الإسلام وفهمه، وكانت خلافته على قِصَر مدتها عامرةً بالأحداث الجليلة التي سيظل المسلمون في كل زمان ومكان يدينون له بالفضل عليها.
نبذة عن حياة أبي بكر الصديق
هو أعظم رجل في تاريخ الإسلام بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، صحابي جليل رافق النبي في دعوته، وهجرته، وغزواته كلها، فكان أحب أصحابه إليه وأفضلهم بلا منازع، ثم حمل راية الإسلام من بعده فكان أهلًا لها، فانطلق يُقوِّم ما اعوجَّ، ويُصلح ما فسد، ويرسي قواعد الخلافة الراشدة، ويوسع رقعة الإسلام، وينشر دعوته في ربوع الأرض، سائرًا على منهاج النبوة، آخذًا بأسباب التمكين، محققًا لشروطه، زاهدّا في هذه الدنيا الفانية، إلى أن لقي ربه.
مرض أبي بكر الصديق
بدأ مرض الصديق رضي الله عنه يوم الاثنين الثامن من جمادى الآخرة لعام 13 هجريًا، وظل مريضًا خمسة عشر يومًا لا يقوى على الخروج إلى الصلاة، أما عن سبب مرضه فقيل أنه أكل طعامًا قبل عام من موته فيه سم لسنة مع الحارث ابن كلدة –طبيب العرب في زمانه-، وروي عن عمر أنه مات كمدًا وحزنًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن الرواية الأصح عن سبب موت أبي بكر الصديق هي ما روته ابنته عائشة رضي الله عنها قالت: “أول ما بُدئ مرض أبي بكر أنه اغتسل، وكان يومًا باردًا، فحُمَّ خمسة عشرة يومًا لا يخرج إلى صلاة، وكان يأمر عمر بالصلاة، وكانوا يعودونه، وكان عثمان ألزمهم له في مرضه”، وحين اشتد عليه مرضه قيل له: “ألا ندعو لك الطبيب؟ فقال: “قد رآني فقال: إني فعال لما أريد”.
استخلاف عمر بن الخطاب
ما زال أبو بكر رضي الله عنه منشغلًا بشؤون رعيته قائمًا على مصالحهم منذ توليه الخلافة وحتى لقي ربه، وها هو ذا لما أحس بدنو أجله لم ينشغل بنفسه وما يلاقيه من ألم، وإنما كان يؤرقه أمر المسلمين ومَن يسترعيه عليهم من بعده، فاتخذ عدة إجراءات لاستخلاف الشخص المناسب وهي كالتالي:
1- اختياره عمر بن الخطاب
لما اشتد مرض أبي بكر الصديق خطب في المسلمين فقال: “إنه قد نزل بي ما قد ترون، ولا أظنني إلا ميت لما بي، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم في حياةٍ مني كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي، فقاموا في ذلك، وخلوا عليه فلم تستقم لهم، فرجعوا إليه فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك، قال: فلعلكم تختلفون، قالوا: لا، قال: فعليكم عهد الله على الرضا، قالوا: نعم. قال فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده، فأرسل إلى عثمان بن عفان فقال: اكتب، فكتب حتى انتهى إلى الاسم فغشي عليه، ثم أفاق فقال: اكتب عمر”.
2- استشارة كبار الصحابة
ولما كان مبالغًا في النصح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه قبيل وفاة أبي بكر الصديق بأيام قليلة رأى أن يستشير كبار الصحابة في أمر استخلاف عمر؛ آخذًا بمبدأ الشورى، فدعا عبد الرحمن بن عوف رضي الله فسأله عن رأيه في عمر فقال: “ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني، فقال أبو بكر: وإن، فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه”.
ثم استدعى عثمان بن عفان وسأله مثلما سأل عبد الرحمن بن عوف فأجابه: “اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته وأنه ليس فينا مثله، فقال أبو بكر: يرحمك الله والله لو تركته ما عدوتك”، واستشار أيضًا أسيد بن حضير وسعيد بن زيد ونفر من المهاجرين والأنصار، فكانت شهادة أسيد في عمر: “اللهم أعلمه الخيرة بعدك يرضى للرضا ويسخط للسخط، الذي يسر خير من الذي يعلن، ولم يلِ هذا الأمر أحد أقوى عليه منه”.
3- كتابة العهد بالخلافة لعمر
وحدث أن خالف أحد الصحابة أبا بكر الرأي فقال: “ما أنت قائل لربك إذ سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني فقال: أبالله تخوفوني؟ خاب من تزود من أمركم بظلم، أقول: اللهم استخلفت عليهم خير أهلك أبلغ عني ما قلت لك مَن وراءك”.
فلما اطمأن أبي بكر إلى قراره واستقر عليه، دعا عثمان بن عفان فقال: “اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب من الإثم، والخير أردت، ولا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، والسلام عليكم ورحمة الله، ثم أمر بالكتاب فختمه”.
4- التوجه إلى الله بالدعاء
وإمعانًا في النصح للأمة، ذكر المؤرخون أنه قبل وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبعد أن استشار الصحابة توجه إلى الله بالدعاء قائلًا: “اللهم إني لم أُرِد بذلك إلا صلاحهم، وخِفتُ عليهم الفتنة، فعملتُ فيهم بما أنت أعلم به، واجتهدت لهم رأيي، فوليت عليهم خيرهم وأقواهم عليهم وأحرصهم على ما أرشدهم، وقد حضرني من أمرك ما حضر، فاخلفني فيهم؛ فهم عبادك، ونواصيهم بيدك، أصلح لهم وإليهم، واجعله من خلفائك الراشدين، يتبع هدي نبي الرحمة، وهدي الصالحين بعده، وأصلح له رعيته”
5- مبايعة عمر بالخلافة
وتلا ذلك أن أمر أبو بكر الصديق عثمان بن عفان رضي الله عنه بتلاوة عهده لعمر بالخلافة على الناس، فأقبلوا عليه يبايعونه قبل موت أبي بكر الصديق، وهكذا انتقلت الخلافة بسلاسة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن رضي به الناس جميعًا خليفةً عليهم.
6- وصية أبي بكر لعمر
ذكر ابن الجوزي رحمه الله في كتابه (صفة الصفوة) في سياق الحديث عن وفاة أبي بكر الصديق أنه رضي الله عنه اختلى بعمر بن الخطاب، وأوصاه بما يلي إبراءً لذمته أمام الله: “اتق الله يا عمر، واعلم أن لله عملًا بالنهار لا يقبله بالليل، وعملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدى فريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في دار الدنيا وثقله عليهم، وحُقَّ لميزان يوضع فيه الحق غدًا أن يكون ثقيلاً.
وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في دار الدنيا وخفته عليهم، وحُقَّ لميزان يوضع فيه الباطل غدًا أن يكون خفيفًا. وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئه، فإذا ذكرتهم قلت: إني أخاف أن لا ألحق بهم.
وإن الله تعالى ذكر أهل النار فذكرهم بأسوأ أعمالهم ورد عليهم أحسنه، فإذا ذكرتهم قلت: إني لأرجو أن لا أكون من هؤلاء، ليكون العبد راغبًا راهبًا لا يتمنى على الله ولا يقنط من رحمة الله، فإن أنت حفظت وصيتي فلا يك غائب أبغض إليك من الموت ولست تعجزه”.
وفاة أبي بكر الصديق
تقول عائشة: “تمثلت لما احتضر أبو بكر: (لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى… إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر)، فقال: ليس كذاك ولكن:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ}، ثم قال: إني قد نحلتك حائطًا، وإن في نفسي منه شيئًا فرديه على الميراث، قالت: نعم، قال: أما إنا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارًا ولا درهما ولكنا أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين شيء إلا هذا العبد الحبشي وهذا البعير الناضح وجرد هذه القطيفة، فإذا مت فابعثي بهن إلى عمر، ففعلت”.
ثم كانت وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليلة الثلاثاء الثالث والعشرين من جمادى الآخرة للعام الثالث عشر من الهجرة، وكان عمره إذ ذاك 63 سنة، ففاضت روحه الطاهرة إلى بارئها بعد أن أوصى بأن تغسله زوجته أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وأن يُدفن إلى جوار المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان آخر ما نطق به قول الله تعالى: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101].
رثاء حسان بن ثابت لأبي بكر الصديق
ما أن ذاع خبر وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلا وضجت المدينة كلها بالبكاء؛ حزنًا على موت خليفة نبيالله وصاحبه، وما منهم من أحد إلا ويشهد له بأنه أدى أمانة رسول الله كأفضل ما يكون، وها هو ذا حسان بن ثابت رضي الله عنه شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم يرثيه بدمع العين والقلب قائلًا:
إذا تذكّرت شجوا من أخي ثقة | فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا | |
خير البــريّة، أتقــاها وأعــــدلها | إلاّ النبيّ وأوفـاهـا بمـــــا حملا | |
والثاني الصّادق المحمود مشهده | وأوّل الناس منهم صدّق الرّسلا | |
عاش حميــدًا لأمــر اللّه متّبــعًا | بهدي صاحبه المــاضي وما انتقلا |
رثاء علي بن أبي طالب يوم وفاة أبي بكر الصديق
وذكر الإمام ابن الجوزي في كتابه (التبصرة) أنه لما كان يوم وفاة أبي بكر الصديق وقف عليٌ رضي الله عنه أمام جثمانه فقال: “رحمك الله يا أبا بكر، كنت إلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنيسه ومستراحه وثقته وموضع سره ومشاورته، وكنت أول القوم إسلامًا وأخلصهم يقينًا، وأشدهم لله يقينًا، وأخوفهم له، وأعظمهم غناء في دين الله عز وجل، وأحوطهم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأحدبهم على الإسلام، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق، وأرفعهم عنده، وأكرمهم عليه، فجزاك الله عن رسول الله وعن الإسلام أفضل الجزاء.
صدّقت رسول الله حين كذّبه الناس، وكنت عنده بمنزلة السمع والبصر، سمّاك الله في تنزيله صديقًا فقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33]، واسيته حين بخلوا، وقمت معه على المكاره حين قعدوا، وصحبته في الشدة أكرم الصحبة، ثاني اثنين صاحبه في الغار، والمنزل عليه السكينة، ورفيقه في الهجرة، وخليفته في دين الله وأمته، أحسن الخلافة حين ارتدوا، فقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي، ونهضت حين وهن أصحابه، وبرزت حين استكانوا، وقويت حين ضعفوا، ولزمتَ منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ وهنوا.
وكنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفًا في بدنك قويًا في أمر الله، متواضعًا في نفسك عظيمًا عند الله تعالى، جليلاً في أعين الناس كبيرًا في أنفسهم، لم يكن لأحدهم فيك مغمز، ولا لقائل فيك مهمز، ولا لمخلوق عندك هوادة، الضعيف عندك قوي عزيز حتى تأخذ بحقه، القريب والبعيد عندك سواء، وأقرب الناس عندك أطوعهم لله عز وجل وأتقاهم… شأنك الحق والصدق، والرفق، قولك حكم وحتم، أمرك حلم وحزم، ورأيك علم وعزم، اعتدل بك الدين، وقوي بك الإيمان، وظهر أمر الله، فسبقت والله سبقًا بعيدًا، وأتعبت من بعدك إتعابًا شديدًا، وفزت بالخير فوزًا مبينًا، فـ {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} [البقرة: من الآية 156]،
رضينا عن الله عز وجل قضاءه وسلّمنا له أمره، والله لن يُصاب المسلمون بعد رسول الله بمثلك أبدًا، كنت للدين عزًا، وحرزًا وكهفًا، فألحقك الله عز وجل بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم ولا حرمنا أجرك، ولا أضلنا بعدك”، فسكت الناس حتى قضى كلامه، ثم بكوا حتى علت أصواتهم وقالوا: “صدقت”.
وختامًا نقول: العظماء لا يموتون، وهكذا فإن وفاة أبي بكر الصديق لا يتجاوز تأثيرها حيز الجسد الفاني، وإلا فإنه في حيز التاريخ والمجد باقٍ ما دامت السماوات والأرض، تخلده أعماله العظيمة ومناقبه الجليلة التي لا ينازعه فيها أحد، وكفاه شرفًا وفضلًا أن حاز محبة وثناء سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم.